أفضل ما لدى الأقليّات نزوعها الدائم إلى مقاومة الاستبداد. وأسوأ ما عندها هو قدرتها على استنفار أردأ ما عند الأغلبيّات. التدقيق في سلوك الأقليّات وسط أغلبيّات ضرورة، خصوصاً في الشرق. البحث في سيرتها بلبنان يصبح أكثر إلحاحاً، بعد ما تبدّى من جنون الصراع على التوقيت، الذي كان ينبغي عدم التلاعب به.
قلق الأقلّيّات المقيم
قرار رئيس مجلس النواب نبيه برّي ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي يشبهان في سوئهما ما أثاراه من ردود فعل. السيّئان الطائفيان ليسا مُستجدّين على لبنان، بل على العكس أظهرا عمق التصدّع وحقيقة القلق المُقيم.
قبل هذا تجلّى سلوك الأقلّيات في علاقة “الشيعية السياسية” مع “السنّية السياسية”. الأولى مثّلت توجّهاً أقلّويّاً حيال ما تعتبره غلبة للثانية عليها بفعل مددها وعددها. ردّت على ذلك بتفاهم “مار مخايل” الذي امتدّ إلى نظام علوي في سوريا يساندهما مدد من العراق فإيران قبل أن تنضمّ “الحوثيّة” إليهم من المقلب الآخر في اليمن.
إمعان النظر في خوف الأقلّيات ليس افتعالاً، ولا مقطوع الآصرة بأسباب فعليّة ولها وقائع تُسندُها، خصوصاً عند المسيحيين. مشاعر الخوف عندهم مقيمة تحت طبقات متعدّدة بتعدّد ما مرّ على لبنان الذي “أسّسوه”، من “أنماط عروبية”. ولئن صحّ تبريره حيناً، لكن يبقى أنّه تعذّر ذلك في أحايين أخرى. كان نشدان “المسيحية السياسية” لتميّز أو تمييز في الجمهورية الأولى بادّعاء الحداثة هو من طبيعة تمييزية ضدّ الآخر الذي استنفر كلّ تعصّبه.
الوحدة الداخلية واستيعاب “صغائر” حكم برّي ـ ميقاتي كفيلان بإعادتهم إلى مكانتهم وحضورهم، وبغير ذلك سيكونون خارج التاريخ
القلق المسيحيّ المُستحيل
في الجمهورية الثانية، وهي بالتعريف اتفاق الطائف، استحال التبرير والتفسير بعدما أقرّ الدستور الضمانات للجميع. استحال أكثر فأكثر مع ما أرساه الرئيس رفيق الحريري من ممارسة سياسية. صار مستعصياً أكثر فأكثر بعدما سقطت كلّ “أنماط العروبة” الاستبدادية أو الإلغائية أو الأمنيّة. صارت العروبة الحديثة “عروبة تنمية وحداثة”. نجحت في مصالحة الحقوق الفردية والسياسية مع نظام الحكم. تشوبها بعض النواقص والثغرات. هذا صحيح. لكنّ الأصحّ أنّنا في لبنان بين مشروعين: إيراني لا يملك شيئاً وطبيعته دينية وأمنيّة، وعربي عنوانه الحداثة وجوهره الاعتراف بالجميع وحقوقهم.
البدء الذي تعثّر
في البدء ساهم المثقّفون الموارنة في النهضة العربية لأسباب ثقافية أوّلاً، ولأسباب وطنية لها علاقة بمساهمة المارونية بمعناها العريض من باب عربي في مواجهة التتريك.
انكفأوا عن هذه العروبة وتعثّر فهمهم لها عندما انتقلت من عروبة ثقافية إلى عروبة سياسية في مطلع الخمسينيات بزعامة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. كان بدا أنّ الأخيرة من طبيعة توحيدية ـ قسرية يغلب فيها الإسلام بفروعه كلّها على ما عداه، فيما أطلق البطريرك بولس المعوشي شعاره سنة 1958: “نحن العروبة البيضاء”. نظر المسيحيون إلى عروبة جمال عبد الناصر بوصفها عروبة إلغائية، إذ اعتبروا، عن حقّ، أنّ “عروبة الوحدة العربية” تلغي استقلال الدول وتلغي استقلال الشعوب.
شاءت الظروف أنّ جمال عبد الناصر كان رجلاً استثنائياً بتفهّمه وفهمه للتركيبة اللبنانية والتقى برجل استثنائي اسمه فؤاد شهاب. الاثنان وضعا قلق المسيحيين على جدول أولويّاتهما. ترجما ذلك بوضع حدّ لـ”الاندفاعة العروبية التوحيدية” في خيمة على الحدود اللبنانية ـ السورية. أفضى ذلك إلى طمأنينة قلقة عند المسيحيين إلى أنّ عروبة عبد الناصر لم تأتِ لإلغاء الخصوصية اللبنانية.
طمأنينة صارت قلقاً
لاحقاً انقلبت “الطمأنينة القلقة” بفعل الهواجس المقيمة إلى عداوة لا هوادة فيها. استنفرت “المسيحية السياسية” في “الحلف” ضدّ “النهج” الموالي للرئيس فؤاد شهاب. لا لشيء إلا لعلاقة جيّدة جمعت الأخير مع عبد الناصر. في عام 1967 أضاؤوا الشموع في جونية وحريصا شكراً للربّ على الهزيمة التي نزلت بمصر ورئيسها.
بعد الهزيمة المدوّية سنة 1967 وسقوط مشروع الجيوش العربية انتقلت العروبة السياسية من عروبة عبد الناصر إلى عروبة قائد الثورة الفلسطينية ياسر عرفات. اتفاق القاهرة جعل من “أبو عمار” مقرّراً في مسار ومصير الدولة، فأجّج خوفاً مستطيراً. رأى المسيحيون أنّ هذه العروبة عروبة تخريبية. وما زاد الأمور تردّياً أنّ هذه العروبة أقحمها اليسار بزعامة كمال جنبلاط في المحلّيات اللبنانية.
العروبة التنموية لا يقدر المسيحيّون مواجهتها أو أن يكونوا ضدّها لأنّها تشبههم وغير إلغائية وليست تخريبية أو أمنيّة. وحتى ينتسبوا إلى هذه العروبة التنموية ويساهموا فيها، فالأرجح أن لا يتمّ ذلك إلا عبر الوحدة الداخلية التي أنجحتهم عام 2005
مسالك المسلمين والمسيحيّين الانتحاريّة
من جهته، اعتبر الإسلام السياسي أنّ “عروبة أبو عمار” بديل عن عبد الناصر، وأنّها رافعة له من أجل تنفيذ إصلاحات دستورية مُحقّة في تكريس الديمقراطية ونفي الطبيعة “الانعزالية” للنظام السياسي آنذاك. رفض الموارنة ذلك بحجّة أنّ لبنانيّة المسلمين ناقصة، وأنّ اليسار هو “يسار دولي”. يومها نظر المسيحيّون إلى هذه العروبة بوصفها تخريبية وتدميرية ساهمت في إسقاط “الجمهورية” التي كانوا أساسيّين في بنائها عام 1943 من أجل أن تكون ضمانتهم في مشرق لا يقرّ بالخصوصية وبالتنوّع والحرّيات الفردية والسياسية.
ليحاربوا “عروبة المنظّمات الفلسطينية التخريبية” سلكوا مسالك انتحارية. استنجدوا مرّةً بحافظ الأسد وبما يمثّل من عقل أقلّوي. وكانت المرّة الثانية وقوعاً في المحظور عام 1982، إذ استعانوا بإسرائيل الأقلّوية العنصرية المنشأ والسيرة. أمّا الثالثة فكانت نوعاً من التذاكي ورهاناً على التباين السنّي ـ الشيعي الذي صار حرباً. حينها انقسموا بين فريقين: أحدهم التحق بـ”الشيعية السياسية”. والآخر ولّى وجهه نحو الخليج. ظنّ الاثنان أنّ هذا ما يُسعف المسيحيين في محيطهم.
العروبة البعثيّة
بين المحطّتين الثانية والثالثة، وفي مطالع التسعينيات تعرّف المسيحيون على عروبة سياسية من نوع ثالث هي “العروبة البعثية” التي مثّلها الأسد الأب والابن، والتي تحكّمت بمصائر اللبنانيين كلّهم. اعتبروها عن حقّ ووقائع فعليّة “عروبة أمنيّة” تمثّل الضدّ لفكرة الدولة الديمقراطية.
أحقّية هذه النظرة وصوابيّتها السياسية كانت ترجمتها بأنّ الوجود الفعليّ السياسي والتجاري والاقتصادي في لبنان شرطه التبعية للنظام الأمنيّ السوري. ربّما كانت هذه هي المرّة الوحيدة التي تكون فيها المواجهة مع هذه “العروبة الأمنيّة” ناجحة. ذلك أنّ المسيحيين لم يذهبوا إلى الخارج للبحث عن حليف إقليمي للاستنجاد به، بل على العكس من سيَرهم الأولى، ذهبوا نحو الوحدة الوطنية بمعناها الميثاقي بين المسيحيين والمسلمين. تخلّوا عن خوفهم التقليدي من المسلمين بعد ما لمسوه من تقاطع مع الرئيس رفيق الحريري ووليد جنبلاط ويساريين من أمثال النائب السابق حبيب صادق، إضافة إلى شخصيات شيعية مستقلّة عن الثنائي.
الضمانة في لبنان لا الإقليم
كان الفضل في هذا السلوك والنجاح للبطريركية المارونية برئاسة البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، ومعه النائب الراحل سمير فرنجية. نظّم الرجلان “لقاء قرنة شهوان” التي راحت تبني أسس الاستقلال الثاني من خلال التمسّك بوحدة الداخل واتفاق الطائف. فكان ما كان من مقتلة أُنزلت بالحريري وأخرجت الجيش السوري بما هو “عروبة أمنيّة” من لبنان، بعد إقامة مديدة استمرّت زهاء 29 عاماً.
عاد التهوّر المسيحي ليتكرّر مع عودة ميشال عون الذي أنعش فكرة “تحالف الأقلّيات”. سلك أسوأ المسالك في العودة إلى فوقيّة باسم “الصلاحيّات”. نجح الرجل في تصليب العصب الأهلي مُجدّداً إلى أن بلغ سدّة رئاسة الجمهورية. رفض الحوار مع الجميع مُتسلّحاً بـ”فائض” القوة عند “حزب الله”. ذهب إلى بشار الأسد وإيران محاولاً استعادة أوهام “حلف الأقلّيات” والاستقواء بالخارج على الداخل. حاول بالأعراف أن يحكم البلد بشكل رئاسي لا جمهوري برلماني.
عودٌ على بدء
أثبت صهر الرئيس السابق جبران باسيل “مهارة” عالية في قيادة “مسيحية سياسية” غذّاها بهويّة أهلية تحريضية وبزخم منقطع النظير، عبر خوضه معركة “التوقيتين الشتوي والصيفي”. استطاع قيادة الكنيسة، وحتى “القوات اللبنانية” و”الكتائب”، إضافة إلى مطارنة كثر من مذاهب مسيحية أخرى ما كان يُنتظر منها ذلك. هذا ردُّ اللبنانيين جميعاً إلى مواضٍ مؤلمة دفع لبنان ثمنها مئات الآلاف من القتلى والمفقودين والمهجّرين. ومجدّداً أيضاً عاد منطق “الغالب والمغلوب”.
ما بعث القلق عند المسيحيين قد يكون “التفاهم” السعودي ـ الإيراني الذي يحتاج إلى سنوات حتى تصل مفاعيله السياسية إلى مراميها. وهو بُنِي على استقلال الدول وعدم التدخّل بشؤونها.
إقرأ أيضاً: إيلاف الموارنة.. أبعد من الشتاء والصيف
آخر الخيارات
المسيحيون اليوم أمام خيارين:
– الأول، هو بالتعريف “مشروع أمنيّ” اسمه إيران الحرس الثوري، الحوثيون، الحشد الشعبي، النظام العلويّ، حزب الله، حركة حماس، حركة الجهاد الإسلامي.
– الثاني، هو مشروع تنموي عربي جديد بقيادة المملكة العربية السعودية والجيل الجديد بالخليج وبدعم مصري.
العروبة التنموية لا يقدر المسيحيّون مواجهتها أو أن يكونوا ضدّها لأنّها تشبههم وغير إلغائية وليست تخريبية أو أمنيّة. وحتى ينتسبوا إلى هذه العروبة التنموية ويساهموا فيها، فالأرجح أن لا يتمّ ذلك إلا عبر الوحدة الداخلية التي أنجحتهم عام 2005. الوحدة الداخلية واستيعاب “صغائر” حكم برّي ـ ميقاتي كفيلان بإعادتهم إلى مكانتهم وحضورهم، وبغير ذلك سيكونون خارج التاريخ: حافظ الأسد مات. إسرائيل الـ82 لم تعد موجودة. نظام بشار الأسد سقط. منطق “تحالف الأقلّيات” الذي قاده عون ـ باسيل إلى جانب الأمين العام للحزب يذوي في ظلّ التفاهم السعودي ـ الإيراني.