هل بدأ العقل عودته إلى الشرق الأوسط؟

مدة القراءة 6 د

تزامن اضطرار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو إلى تجميد خطّته المثيرة للإصلاح القضائي، تحت وطأة الضغط الشعبي، مع اضطرار رئيس حكومة لبنان إلى التراجع عن تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي حتى نهاية رمضان، تحت وطأة ضغط شعبي أيضاً. وبعدها، ونتيجة ضغط مماثل، إعلامي وشعبي، اضطرّ وزير الأشغال اللبناني إلى إبطال عقد أُقرّ مع شركة إيرلندية بالتراضي وبما لا يتوافق مع قانون الشراء العامّ الصادر في 2021، لتوسعة مطار بيروت الدولي.

على الرغم من تباين المعركتين حجماً ونوعاً، إلا أنّنا بإزاء نمط مثير للاهتمام تفصح عنه الأحداث الأخيرة الجارية في لبنان وإسرائيل. يكشف الصراع حول التوقيت الصيفي في لبنان والمعركة ضدّ الإصلاح المقترَح لنظام العدالة الإسرائيلي، عن تنامي تيار جماهيري تجمعه المطالبة بإحلال العقلانية في السياسة والإدارة ويتعامل بحساسيّة عالية مع كلّ خطوة يُشتمّ منها تذاكٍ على الرأي العامّ أو استخفاف به.

تزامن اضطرار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو إلى تجميد خطّته المثيرة للإصلاح القضائي، تحت وطأة الضغط الشعبي، مع اضطرار رئيس حكومة لبنان إلى التراجع عن تأجيل العمل بالتوقيت الصيفي حتى نهاية رمضان، تحت وطأة ضغط شعبي أيضاً

وإذا أردنا القفز أبعد قليلاً، أمكن القول إنّ إحياء السياسات التي يحرّكها العقل يمكن أن تمهّد الطريق لمزيد من المقاربات الواقعية والموجّهة نحو حلّ النزاعات الطويلة الأمد بعقلانية أيضاً بعدما اختُطفت هذه القضايا من قبل سياسيين شعبويين على الجانبين. المطالبات اللبنانية والإسرائيلية هي مطالبات واضحة بالحكم الرشيد، وهو ما بات يجبر زعماء سياسيين يحظون بالمكانة والنفوذ والتاريخ على التصالح مع حدود السلطات التي يحوزونها، وباتوا وكأنّهم يدركون أنّ من سينجو منهم من المقصلة الشعبية هم أولئك القادرون على إعطاء الأولوية للتعاون والحوار والتسوية ضدّ التعنّت والتجبّر والاستفراد.

بينيت في الإمارات

في هذا السياق تقدّم الأنباء عن زيارة قام بها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت للإمارات، وسط شائعات عن إلغاء زيارة كان مخطّطاً لها سابقاً لنتانياهو، مثالاً رئيسياً على ما تملكه هذه النذر الشعبية والإعلامية والسياسية.

يسلّط الترحيب ببينيت الضوء على التزام الإمارات الثابت بالبحث عن شركاء للتعايش معهم، بدل إعلان اليأس من السلام بسبب سياسات محدّدة لحكومة محدّدة. وهذا خيار مناقض تماماً للرواية الموازية التي روّجها الإسلاميون والقوميون واليساريون القدامى والذين يستمتعون بالانهيار المفترض لإسرائيل، متعمّدين تعميم صورة نمطية عن الآخر ككتلة صمّاء لا تمايزات فيها.

في ضوء التجارب السابقة، لا سيما تجربة انتفاضات الربيع العربي، أجدني أكتب هذه الكلمات بمنتهى الحذر، نتيجة ما خبرناه من مخاطر محتملة تتأتّى عن الهويّة الغامضة للحشود المتظاهرة وعدم وضوح دوافعها السياسية.

وفي هذا السياق عرض الكاتب المخضرم حازم صاغية تقويماً قاتماً لتحدّيات الحوكمة في منطقة المشرق العربي في منشور حديث على صفحته على موقعFacebook . سلّط صاغية الضوء على قضية انفجار الهويّات في مجتمعات المنطقة، التي جعلت إمكانية نشوء “معارضة وطنية” عابرة للهويّات الفرعية مسألة شبه مستحيلة، مستشهداً على ذلك بغياب عرب إسرائيل عن الاحتجاجات الأسبوعية أو المشاركة المحدودة للسنّة والعرب والأكراد في انتفاضة العراق لعام 2019. كما أشار صاغية أيضاً إلى أنّه، حتى في لبنان، يركّز الأفراد بشكل أساسي على اهتماماتهم الخاصة بعد تجارب مثل الانتفاضات الهائلة في 14 آذار 2005 و17 تشرين الأول 2019. واستنتج صاغية بمرارة أنّ المنطقة تبدو غير قابلة للحكم بغير الطريقة التي يحكم بها بشار الأسد!!

في لبنان، يُعتبر رفض مجموعة كبيرة من البرلمانيين السُّنّة لقرار حكومة ميقاتي تأجيل بدء العمل بالتوقيت الصيفي، الذي كان يُقصد منه أن يكون بادرة شعبوية تجاه صائمي شهر رمضان، علامة مماثلة تبعث على الأمل

في حين أنّني أشارك صاغية قلقه بسبب قصور التظاهرات التي أشار إليها عن أن تكون جامعة، إلا أنّني أرى أيضاً أملاً في هذه الاندفاعة المتنامية التي ترتكز على العقل والعقلانية في السياسة لا على الهويّات فقط، وأجد فيها احتمالات جدّية لأن تنمو باتجاه أكثر شمولاً للتنوّع الاجتماعي والهويّاتي.

اندماج “عرب 48″؟

على الرغم من أوجه القصور الكبيرة في الثقة بين المجموعات المتنوّعة، تبرز مؤشّرات تبعث على الأمل بإحراز تقدّم نحو سدّ فجوة انعدام الثقة هذه.

على سبيل المثال وقّعت شخصيات عربية إسرائيلية بارزة على عريضة تحثّ عرب إسرائيل، الذين ظلّوا إلى حدّ كبير حتى الآن على هامش الاحتجاجات ضدّ مبادرة الإصلاح القضائي، على الانضمام إلى الاحتجاجات الجماهيرية ضدّ حكومة نتانياهو. وقد أعربت العريضة، التي وقّعها حوالي 200 شخص، بمن فيهم رؤساء البلديات وأعضاء الكنيست السابقون وكبار المهنيين والفنّانون والأساتذة، عن القلق من أن تكون الأقليّة العربية هي الضحية الأولى لهذه التعديلات القضائية المقترَحة.

وفي لبنان، يُعتبر رفض مجموعة كبيرة من البرلمانيين السُّنّة لقرار حكومة ميقاتي تأجيل بدء العمل بالتوقيت الصيفي، الذي كان يُقصد منه أن يكون بادرة شعبوية تجاه صائمي شهر رمضان، علامة مماثلة تبعث على الأمل. وهو يشير إلى أنّ الانعطاف الطائفي الذي اتّخذه النقاش حول هذه القضية لم ينجح في كسر شجاعة النواب المسلمين المعترضين أو منعهم من اتخاذ موقف إلى جانب المنطق والعقل. إنّ عدم خضوع هذه المجموعة من النواب تحديداً لديناميكيّات المبارزة بين المسلمين والمسيحيين، على خلفيّة التوقيت الصيفي، يقدّم دليلاً إضافياً بشأن قدرتنا كبشر على تجاوز قيود الهويّات الفرعية.

إقرأ أيضاً: عن شريط الأستاذ والنجيب

أجد في تداعيات هذه الأحداث الأخيرة، أسباباً كثيرة للتفاؤل بأن يكون التحالف بين العقلانية وقوّة الفعل الشعبي رافعة تنقل الشرق الأوسط رويداً نحو مستقبل أكثر استقراراً وسلاماً وتعاوناً. شعوب هذه المنطقة لا يستحقّون أقلّ من فرصة للعيش في وئام، مدفوعين بالفطرة السليمة والسعي الإيجابي إلى تحقيق مصير مشترك.

لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…