انتهت لعبة تقديم الساعة في لبنان من دون أن تنتهي، وذلك بعدما كشفت الشرخ الطائفي والمذهبي العميق والخطير في البلد. كشفت النكتة السمجة المتعلّقة باعتماد التوقيت الصيفي، أو تأجيل اعتماده إلى ما بعد شهر رمضان، بدائية السياسيين اللبنانيين وعجزهم عن استيعاب تحدّيات المرحلة.
إنّها إحدى أخطر المراحل التي يمرّ فيها لبنان منذ تأسيسه، كما أنّها مرحلة مخاض على صعيد المنطقة كلّها، خصوصاً في ضوء تفتّت سوريا ووقوعها تحت خمسة احتلالات.
بيّن ما كشفته لعبة الساعة أنّ رئيس مجلس النواب نبيه بري يتعاطى مع مسائل مهمّة بخفّة قلّ نظيرها، بما في ذلك علاقة لبنان بمحيطه والعالم. لكنّ تلك اللعبة – النكتة، التي أحرجت رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، أظهرت مدى ضعف ميقاتي أمام رئيس السلطة الاشتراعية. كذلك، أظهرت مدى إفلاس معظم القيادات المسيحية وسطحيّتها، حتّى لا نقول سخفها.
في لعبة التوازنات اللبنانيّة، يستخدم الحزب “التيار” وليس العكس. بات مستقبل لبنان مرتبطاً بمستقبل الحزب ودوره الإقليمي من اليمن… إلى العراق، مروراً بسوريا ولبنان
لا يمكن الحديث عن كلّ القيادات المسيحية، بل لا بدّ من الإشارة إلى أنّ لعبة الساعة كانت مناسبة كي يظهر “التيار الوطني الحر”، الذي يرأسه جبران باسيل، على حقيقته. تتمثّل هذه الحقيقة في مدى عنصريّته.
يبقى ذلك كلّه، ضمن حدود معيّنة، لولا أنّ لعبة الساعة كشفت مدى جهل، صهر الرئيس السابق للجمهوريّة، بـ”حزب الله” وطبيعة الحزب الذي عصر “التيّار العوني” مثلما يعصر برتقالة. عصَر الحزب البرتقالة ورماها بعدما اعتبر أنّه أعطى ميشال عون وجبران باسيل ما وعدهما به… مع حبّة مسك. وفى الحزب بوعوده والتزاماته تجاههما. هل كان ميشال عون يحلم يوماً بالوصول، مع صهره، إلى قصر بعبدا لولا تحوّله إلى مرشّح “حزب الله” بعد زيارة لطهران جاء بعدها إلى بيروت وراح يكيل المديح لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” وتعاطيها مع الأقلّيات فيها!
استخفاف برّي بالمسيحيين
كانت لعبة الساعة مناسبة كي يطفو على السطح مدى استخفاف نبيه برّي بالمسيحيين وما يمثّلونه في لبنان من جهة، وكي يُظهر غياب أيّ توازن في القوى بين رئيس مجلس النوّاب الشيعي، الذي يمثّل الجناح السياسي لـ”حزب الله”، ورئيس مجلس الوزراء السنّيّ من جهة أخرى.
يبقى الأهمّ من ذلك كلّه ردّ فعل جبران باسيل على تأخير اعتماد التوقيت الصيفي قبل انتهاء رمضان. سأل جمهوره، الذي جمعه كلّه في قاعة واحدة، هل بات هذا الجمهور يفهم الآن معنى وجود “الرئيس القوي”؟
كان ذلك في معرض دفاعه عن السنوات الستّ التي أمضاها ميشال عون في قصر بعبدا. المخيف في الأمر هو كلّ ذلك العتب المفاجئ لدى جبران باسيل على “حزب الله”. ظهر جبران في مظهر سياسي حديث المعرفة بالحزب. ادّعى أنّ الحزب وعده سابقاً برفض الإتيان برئيس لا يحظى برضاه. كان يردّ على حسن نصرالله الذي رأى في سليمان فرنجيّة مرشّحاً “طبيعياً” لرئاسة الجمهوريّة.
كشفت النكتة السمجة المتعلّقة باعتماد التوقيت الصيفي، أو تأجيل اعتماده إلى ما بعد شهر رمضان، بدائية السياسيين اللبنانيين وعجزهم عن استيعاب تحدّيات المرحلة
ما يصعب على صهر الرئيس السابق فهمه أنّه أدّى خدمته العسكرية لدى الحزب، أي لدى اللواء اللبناني في “الحرس الثوري” الإيراني. بات خارج اللعبة الكبرى الدائرة في لبنان والمنطقة. صار المسيحيون جميعاً خارج هذه اللعبة بعد كلّ ما فعلوه بأنفسهم منذ توقيع اتفاق القاهرة في عام 1969.
تجربة عون… ومرفأ بيروت
لم تعُد من فائدة تُذكر لإثارة الغرائز لدى المسيحيين في لبنان. يفيد جبران باسيل وأمثاله بعض التواضع والاتّعاظ من التجربة التي مرّ فيها في السنوات التي أمضاها ميشال عون في رئاسة الجمهوريّة. بين 31 تشرين الأوّل 2016 و30 تشرين الأوّل 2022، كان في قصر بعبدا رئيس للجمهوريّة لا يجرؤ على التلويح بتحقيق دولي لكشف حقيقة تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020. كان ميشال عون يخشى “حزب الله” الذي يريد، الآن، فكّ زيجته معه بهدوء.
هل سأل جبران، الذي وقع تحت عقوبات أميركيّة، نفسه: لماذا سارع رئيس الجمهوريّة إلى قطع الطريق على التحقيق الدولي في جريمة المرفأ بعد ساعات قليلة من حدوثها؟ هل هذا هو “الرئيس القوي” الذي يترحّم جبران على عهده الذي شهد انهيار النظام المصرفي اللبناني؟
شاء المسيحيون أم أبوا، عليهم الاعتراف بأن لا بديل لديهم من اتفاق الطائف الذي سعى ميشال عون وجبران باسيل إلى القضاء عليه بدل حمايته برموش العين. إذا كان من قاسم مشترك ما زال يجمع بين الحزب و”التيار العوني”، فهذا القاسم هو العداء لاتفاق الطائف بدل الاستعانة بـ”حزب الله” لتنفيس حقد على أهل السُّنّة في لبنان.
في لعبة التوازنات اللبنانيّة، يستخدم الحزب “التيار” وليس العكس. بات مستقبل لبنان مرتبطاً بمستقبل الحزب ودوره الإقليمي من اليمن… إلى العراق، مروراً بسوريا ولبنان. سيتحدّد دور الحزب، بطبيعته المختلفة، في ضوء تنفيذ ما ورد في نصّ البيان السعودي – الصيني – الإيراني الصادر في السادس من آذار 2023، عن “احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخليّة”… أو رفض إيران تنفيذ ذلك.
إقرأ أيضاً: إيلاف الموارنة.. أبعد من الشتاء والصيف
لم يعد مصير لبنان مرتبطاً بلعبة تقديم ساعة يحاول جبران باسيل الاستفادة منها. لا يسمح الواقع على الأرض للمسيحيين بممارسة أيّ لعبة من أيّ نوع باستثناء لعبة واحدة هي لعبة التنديد بالاحتلال الإيراني وسلاحه الميليشيوي والوقوف في وجهه وإدانته. لا خيار أمام المسيحيين غير أن يشكّلوا مع إخوانهم الشيعة، الرافضين للهيمنة الإيرانيّة، والسُّنّة والدروز، نواة لمقاومة حقيقية للاحتلال الإيراني كي يبقى لهم مرقد عنزة على الأرض اللبنانيّة بدل أن يكون مصيرهم في “جهنّم” كما توقّع لهم ولبلدهم ميشال عون.