أزمة البنوك الأميركيّة: الإفلاس الذي يشتهيه اللبنانيّون

مدة القراءة 6 د

كان يمكن لبنك “سيليكون فالي” أن يستمرّ بالعمل لأربع سنوات أخرى، من دون أن يدفع لزبائنه ودائعهم، ومن دون أن يعلن الإفلاس، ثمّ يعلن الإضراب إذا ما حصل أحد عملائه على حكم قضائي يلزمه بالسداد. يحتاج هذا السيناريو فقط إلى وجود رياض سلامة بدلاً من جيروم باول على رأس مجلس الاحتياطي الفدرالي.

ما حدث في أميركا خلال عطلة نهاية الأسبوع كان شيئاً مختلفاً. تعرّض البنك الذي يقارب حجم أصوله 211 مليار دولار، إلى هجمة سحوبات من المودعين (bank run) قاربت 40 مليار دولار، فانهار البنك. لكن ما حدث بعد ذلك مهمّ لحسم الجدل العقيم الذي يغرق فيه لبنان منذ اندلاع الأزمة.

على الفور، وضعت الهيئة الفدرالية لضمان الودائع (FDIC) يدها على البنك، وقامت بتسييل أصوله لتوفير الحد الأدنى المضمون من كلّ وديعة، والمحدّد قانوناً بـ250 ألف دولار، وجعلها متاحة للمودعين اعتباراً من صباح أول يوم عمل، وهذا كلّه قبل أن تعلن السلطات خطّتها للمعالجة.

تكفي معرفة أنّ صناديق التحوّط كانت تعرض على المودعين في بنك سيليكون فالي يوم الجمعة بيع ودائعهم بثمانين في المئة من قيمتها، أي بحسم 20%

قيمة وضع اليد على البنك أنّه حفظ الأصول الموجودة في البنك، ليصار إلى حلّ من اثنين: إمّا إيجاد مستثمر يشتري البنك ويحفظ حقوق المودعين، وإمّا أن يصفّى البنك وتستخدم العوائد لسداد أعلى نسبة ممكنة من الودائع.

تكفي معرفة أنّ صناديق التحوّط كانت تعرض على المودعين في بنك سيليكون فالي يوم الجمعة بيع ودائعهم بثمانين في المئة من قيمتها، أي بحسم 20%. وهذا لثقتهم أنّ النسبة التي تغطّيها الأصول الباقية لدى البنك أعلى من ذلك. والسبب أنّ هناك سلطة رقابية وضعت يدها على تلك الأصول ومنعت العبث بها. (تخيّل أنّ بنكاً ما زالت أصوله تغطّي أكثر من 80% من الودائع يعلن إفلاسه، فيما بنوك لا تغطي أصولها 10% من الودائع تسرح وتمرح في لبنان، وتُتْرك لعبث ملّاكها وإداراتها!).

في يومَي العطلة، سارع مجلس الاحتياطي الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) مع هيئة ضمان الودائع الفدرالية (FDIC) إلى إنشاء صندوق مهمّته ضمان كامل الودائع في البنوك التي تتعرّض لهجمات من المودعين. الفكرة ببساطة أنّ المودع لن يبادر إلى سحب كامل وديعته حين يطمئنّ إلى سلامتها.

4 مبادىء مصرفيّة عالميّة

أرست أزمة بنك “سيليكون فالي” مبدأً عالمياً جديداً في التعامل مع تعثّرات البنوك، لخّصته كلمة الرئيس الأميركي جو بايدن بأربعة مبادئ، هي خلاصة عقود من تطوّر التشريع المصرفي، وبالأخصّ، خلاصة دروس الأزمة المالية العالمية:

1- مسؤولية الدولة عن ضمان الودائع كاملة.

2- عدم مسؤولية الدولة عن إنقاذ (ملّاك) البنوك، وعدم جواز استخدام الأموال العامة لهذه الغاية، باعتبار أنّ مالكيها مستثمرون قرّروا بملء إرادتهم الاستثمار واعين لِما فيها من مخاطر، وعليهم تقبّل خسارة كامل استثمارهم.

3- معاقبة من تسبّبوا بالخسارة.

4- تطوير التشريعات لمنع تكرارها.

آن للجدل العقيم حول أسس توزيع الخسائر أن ينتهي، فمحصّلة التجارب العالمية أرست الأمر. لكنّ العبرة تبقى بموازين الأمر الواقع التي تميل لمصلحة من يفضّلون أن يصل الدولار إلى 100 ألف ليرة على الشروع في حلٍّ يسلبهم شيئاً من أرباح الأزمة

المشكلة الأخلاقية في لبنان أنّ بنوك “الزومبي” ظلّت حرّة التصرّف بأصولها ومطلوباتها حتى اليوم، فيما تغطّ الهيئة المصرفية العليا ولجنة الرقابة على المصارف في سبات أهل الكهف. وكانت النتيجة أنّه بدلاً من وضع اليد على الأصول العالية الجودة لضمان استخدامها بشكل عادل في إعادة أموال المودعين، ولو بنسبة “هيركت”، تُرك الحبل على الغارب لإدارات البنوك وملّاكها للعبث بالأصول وفق ما تقتضيه مصالحهم.

هكذا ضاعت أصول البنوك التي كان من الممكن استخدامها لإعادة الودائع:

1- استخدمت المصارف 11 مليار دولار من أصولها الدولارية السائلة على الأقلّ لتهريب ودائع المحظيّين، في السنة الأولى من الأزمة فقط، بتمويل وتواطؤ مباشر من مصرف لبنان، تحت ذريعة تغطية المراكز المكشوفة للبنوك لدى المصارف المراسلة الأجنبية.

2- بدّدت البنوك 34 مليار دولار من القروض من خلال السماح للمقترضين (لا سيما كبار رجال الأعمال وأصحاب الحظوة) بسدادها على سعر الصرف القديم (1,500 ليرة للدولار)، أو عبر تجارة الشيكات. ولعب مصرف لبنان دوراً مباشراً في تلك اللعبة من خلال المحفّزات التي أعطاها والإعفاء المريب من غرامات السداد المبكر. تبرّر البنوك تلك الفضيحة بأنّه غُلب على أمرها، وأنّ المقترضين يسدّدون عن طريق كتّاب العدل، لكنّ ذلك لا يغطّي التواطؤ. فما الذي منع البنوك من أن تعلن الإضراب حتى تسوية الأمر تشريعياً أو قضائياً، كما تفعل الآن لوقف تنفيذ أحكام قضائية تلزمها بالأداء النقدي للودائع بالدولار؟

3- تُرك للبنوك المتعثّرة التصرّف بالأصول المنقولة وغير المنقولة وتهريبها كما تريد، من دون فصل بين الإدارة والملكية، ما أتاح للجهات المرتبطة بالملّاك وضع اليد على العقارات المرهونة من العملاء، أو إخراج السيولة من البنوك على شكل “مصاريف”.

في المحصّلة، كان لدى النظام المصرفي اللبناني في 17 تشرين الأول 2019 أصول بالعملة الأجنبية ذات جودة معقولة تغطّي ما لا يقلّ عن 70% من الودائع، لو أُحسنت إدارتها. وكان بالإمكان ضمان كامل الودائع التي لا تزيد على 200 ألف دولار. لكنّ الفساد جعل تلك الأصول تُستخدم لصالح المقترضين الكبار والمودعين المحظيّين.

فات الكثير من الوقت، وما كان ممكناً من المعالجات قبل ثلاث سنوات لم يعد يجدي اليوم، لكن تبقى الأسس المبدئية التي لا يمكن لأيّ حلّ أن يستقيم من دونها:

1- التخلّص من النفس الشعبوي اليساري المعادي للمودعين، والذي ينادي بعدم استخدام أصول الدولة بأيّ شكل من الأشكال لإعادة أيّة نسبة منها. فمن دون الإقرار بأولوية للمودعين لا يمكن للنظام المالي أن يقوم من جديد.

2- إيجاد طريقة لمنع أصحاب البنوك من الاستمرار بالتصرّف بالأصول بعد توقّف مؤسّساتهم عن الدفع، كما يحصل في أيّ بلد محترم يتوقّف فيه البنك عن السداد للمودعين.

3- معاقبة المتواطئين بتهريب أصول البنوك منذ 2019 حتى اليوم.

4- فرض ضريبة استثنائية (windfall) على الشركات والمتموّلين الذين استفادوا من سداد القروض على سعر الصرف القديم، بمن فيهم أولئك الذين سدّدوا قروضاً سكنية لعقارات فارهة تفوق قيمتها حدّاً معيناً، ليكن 500 ألف دولار مثلاً. فهؤلاء ميسورون لا يجوز أن ينعموا بأرباح الأزمة فيما آخرون لا يصلون إلى ودائعهم.

إقرأ أيضاً: الدولار هبط 1,000 ليرة وليس 13,000… فلا تنغشّوا

آن للجدل العقيم حول أسس توزيع الخسائر أن ينتهي، فمحصّلة التجارب العالمية أرست الأمر. لكنّ العبرة تبقى بموازين الأمر الواقع التي تميل لمصلحة من يفضّلون أن يصل الدولار إلى 100 ألف ليرة على الشروع في حلٍّ يسلبهم شيئاً من أرباح الأزمة.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…