لم يكن مفاجئاً أن تتوصّل السعودية وإيران إلى اتفاق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح السفارتين والممثّليات والقنصليات في البلدين. سبق للتسريبات التي خرجت منذ أشهر عن جلسات الحوار في بغداد والوساطة التي قادتها سلطنة عمان أن توقّعت قرب اجتماع وزيرَي الخارجية لوضع نقاط على حروف تطبيع العلاقات المنقطعة نهائياً منذ عام 2016. ومع ذلك لم يتحقّق الأمر، وبقيت التصريحات الرسمية إيجابية من دون العبور نحو مرحلة متقدّمة.
المفاجأة هي بكين
ما هو مفاجئ أنّ الأمر حصل في بكين برعاية الصين من دون أن يتسرّب في وسائل الإعلام قبل ذلك أيّ أعراض تشي بذلك. والأرجح أنّ كل ما تقدّم في حوار السعودية وإيران لم يكن ليثمرَ اتفاقاً من دون دولة ضامنة كبرى صديقة للطرفين. وإنّ في لعب بكين هذا الدور بصمت وهدوء ودأب، وإقبال الرياض وطهران على الانخراط في مبادرتها، ما يقدّم واجهة جديدة للنفوذ الذي باتت الصين تمتلكه في الشرق الأوسط. بمعنى آخر، إذا كانت المناسبة اتفاقاً سعودياً-إيرانياً فإنّ الحدث يؤسّس لمكانة مقبلة للصين في المنطقة.
لم يكن مفاجئاً أن تتوصّل السعودية وإيران إلى اتفاق لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما وإعادة فتح السفارتين والممثّليات والقنصليات في البلدين
حين نتحدّث عن الحدث في بعده الشكليّ تصحّ ملاحظة أنّ التطوّر جرى بناء على قواعد أمنية تولّى توليفها الطرف الصيني برعايته مبادرة في أثناء زيارة الزعيم الصيني شي جينبينغ للرياض في 7 كانون الأول الماضي ثمّ زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لبكين في 14 شباط الماضي. وفق المقاربة الأمنية قاد وفدَي التفاوض، اللذين التقيا بين 6 و10 آذار الجاري، عن السعودية مستشار الأمن الوطني السعودي مساعد بن محمد العيبان، وعن إيران أمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي شمخاني.
في الشكل أيضاً يرسم الاتفاق خارطة طريق تمرّ عبر لقاء، لاحق على مستوى سياسي هذه المرّة، بين وزيرَي خارجية البلدين، يشمل مناقشة مسائل تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين. وفي الشكل أيضاً ديباجات عامّة تتحدّث عن تأكيد البلدين “احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية”، بما يفضح حقيقة أنّ لبّ الخلاف أساساً يقوم على هذه المسألة بالذات التي لم يتوانَ الطرف الإيراني عن التبجّح بها حين فاخرت منابر طهران قبل سنوات بإعلانها السيطرة على 4 عواصم عربية.
إدارة جديدة للخلافات
على الرغم من أنّ الاتفاق اللافت لم يخُض، وفق ما أظهره البيان المشترك، في عمق الملفات الخلافية، وعلى الرغم من أنه يعيد حال العلاقات في الشكل إلى ما قبل عام 2016 حين كانت سفارتا البلدين تعملان في العاصمتين من دون أن يكون ذلك حينها مؤشّراً إلى ودّ ووفاق، فإنّ ذلك يعني أن الأمر لا يعدو كونه إدارة جديدة للخلافات بين البلدين وليس تجاوزاً لها. أمّا تبادل السفيرين فقد يساهم وقد يكون خطوة لتحسين شروط التوصّل يوماً إلى اتفاق، سواء على المستوى الاستراتيجي العالمي أو على مستوى الخلافات في ملفّات تفصيلية، أهمّها اليمن وليس أقلّها لبنان وسوريا وميادين الدفاع والأمن والاقتصاد.
إذا ما أورد بيان الاتفاق مهلة شهرين حدّاً أقصى لإعادة فتح السفارتين، فإنّ شهوراً كثيرة قد تمرّ قبل تحقيق تقدّم نوعي يتجاوز البروتوكولات الدبلوماسية، وربّما تمضي سنوات عديدة قبل استعادة مستوى من العلاقات قد يعادل ذلك الذي تحقّق في عهدَي الرئيسين الإيرانيَّين علي أكبر هاشمي رفسنجاني ومحمد خاتمي. فما زالت عصبية رائجة لدى الطبقة الحاكمة في طهران تنهل من العداء للسعودية شرعية وجود وبقاء.
الواضح أنّه سيكون من الصعب الثقة بإمكانات التطبيع الكامل والحقيقي للعلاقات بين البلدين من خلال ما أورده بيان الاتفاق في بكين. وصحيح أنّ زعيم حزب الله في لبنان السيّد حسن نصر الله مثلاً قد رحّب بالاتفاق، غير أنّ ذلك يعبّر فقط عن إرادة طهران الآنية التي قد تتبدل إذا ما ارتأت الأجندات ذلك. وحريّ بالتذكير أنّ الحملات التي كان يشنّها نصرالله ضدّ السعودية وبقية دول الخليج كانت تتمّ في ظل وجود سفارات لتلك البلدان في طهران والرياض وعلاقات “طبيعية” بين البلدين.
مع ذلك يتوّج ما جرى في بكين مساراً طويلاً من الحوار بين السعودية وإيران، على الأقل في جولاته في بغداد منذ نيسان 2021. ويتّسق الاتفاق أيضاً مع خطاب سياسي داعم لعلاقات طيبة بين البلدين كرّر التعبير عنها وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في مقابلة مع صحيفة “أتلانتيك” الأميركية في آذار 2022 قائلاً: “إنّهم جيراننا، وسيبقون جيراننا للأبد، ليس بإمكاننا التخلّص منهم، وليس بإمكانهم التخلّص منّا، لذا من الأفضل أن نحلّ الأمور، وأن نبحث عن سبل لنتمكّن من التعايش”. وكرّر الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي من جهته مراراً الدعوة إلى علاقات جيدة باعتبارها “مفيدة وتخدم أمن المنطقة”. لكنّ هذه الإيجابية لم تمنع المرشد علي خامنئي أخيراً من مهاجمة السعودية واتهامها والولايات المتحدة بالتخطيط للاضطرابات في إيران.
سيكون من الصعب الثقة بإمكانات التطبيع الكامل والحقيقي للعلاقات بين البلدين من خلال ما أورده بيان الاتفاق في بكين
نعم للتأمّل لا للتعجّل
وجب تأمّل الحدث بعناية من دون التعجّل في البناء عليه. فالتطبيع الحقيقي لعلاقات البلدين يتطلّب تحوّلاً جذرياً لم يتحقّق في إيران مقارنة بما تحقّق في السعودية منذ تبوّؤ الملك سلمان بن عبد العزيز عرش المملكة عام 2015 وما أًنجز من إصلاحات بدفع من وليّ العهد الأمير محمد. وما أُبرم في بكين يتطلّب التعبير عنه في القول والعمل والسلوك في طهران. ومع ذلك فإنّ ما قد يُلزم الحاكم الإيراني باحترام روح الاتفاق هو موقع السعودية الجديد في الدائرتين الإقليمية والدولية وأهميّتها الجيوستراتيجية بالنسبة للصين، الدولة الراعية للاتفاق، وروسيا التي جمعتهما تجربة ناجحة داخل مجموعة “أوبك+” وكان وزير الخارجية فيصل بن فرحان زائراً لعاصمتها عشيّة حدث بكين.
إذا ما اعتبرنا أن الاتفاق يعيد حال العلاقة بين السعودية وإيران إلى ما قبل عام 2016، أي قبل قطع العلاقات الدبلوماسية بينهما، فإنّ ذلك لا يعيد وضع البلدين إلى ما كان عليه. فقد تغيّر العالم وتغيّرت السعودية إلى الأفضل وبات موقعها الدولي مفصلياً وأساسياً وحراكها أكثر حيوية وقوة واستقلالاً عن القوى الكبرى. بالمقابل تغيّرت إيران نحو مستويات متراجعة بسبب العقوبات الأميركية القاسية منذ عام 2018، مروراً بتدهور مستوياتها الاقتصادية، وانتهاء بالحراك الداخلي الذي بات يقلق أصحاب القرار إلى درجة شيطنته واعتباره صناعة خارجية.
إقرأ أيضاً: السعوديّة تختار بحرّيّة شركاءها الغربيّين والدوليّين
سيسيل حبر كثير بشأن تداعيات الحدث في بكين على مستقبل التحوّلات في بلدان عديدة مثل اليمن وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق… إلخ، كما مستقبل علاقات إيران مع كلّ المنطقة العربية، من دون التقليل من أثر الأمر على مستقبل المفاوضات حول البرنامج النووي في فيينا. والأمر سينعكس على إسرائيل وطموحاتها في الشرق الأوسط. سيربك الحدث المقاربة الشاملة للولايات المتحدة للمنطقة. صحيح أن واشنطن رحّبت بالأمر، لكنها ستدرس بضيق ونزق وعناية معانيه في خرائطها الاستراتيجية الكبرى. في المحصّلة بإمكان هذا الاتفاق أن يكون نواة لشرق أوسط جديد، وإذا لم تحتمل طهران مفاعيله فإنّه لن يكون إلا حبراً صينياً على ورق.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@