الديانة الإبراهيميّة.. “فانتازيا” التطبيع

مدة القراءة 11 د

الحوار بين الأديان هو غير الدعوة إلى وحدة الأديان، وإن كان بعض روّاده بحثوا عن وحدة ما بين أتباع الديانات. وتشييد بيت إبراهيمي يتجاور فيه مسجد وكنيسة وكنيس في بقعة واحدة هو غير الدعوة الصريحة إلى ديانة إبراهيمية تجمع اليهود والمسيحيين والمسلمين في دين مشترك واحد، وإن كان بعض المعارضين لـ “بيت العائلة الإبراهيمية” المُنشَأ في جزيرة السعديات في إمارة أبو ظبي يرون فيه خطوة نحو تأسيس الدين الإبراهيمي الجديد. التفاعل بين الأديان والتحاور بين أتباعها، والجدل فيما بينهم حالة طبيعية واعتيادية، من جملة الدعوة والتبشير، لتوضيح العقائد وإبلاغها واكتساب مؤمنين جدد. حتى إنّ بلاطات الملوك عبر العصور تعرّضت لحالات جذب ومحاولات تأثير من دعاة حاولوا تغيير دين الملك كي يتغيّر دين شعب بكامله، ومنها بلاط الإمبرطور المغوليّ جلال الدين أكبر (حكم ما بين 948-1014هـ/1542-1605م)، الذي أسّس قصراً في عاصمته “فتحبور” سمّاه “عبادت خانه”، ودعا إليه العلماء من كلّ طائفة من السنّة والشيعة والبراهمة واليهود والنصارى والمجوس، وتولّى أصحابُه إدارةَ المناظرات. وانتهى به الأمر إلى تأسيس “الدين الإلهي”، وهو أقرب إلى الهندوسية منه إلى الإسلام، كي يميّز نفسه عن الدولة الصفوية الشيعية في إيران والدولة العثمانية السنّية في ذروة الصدام بين الدولتين آنذاك. فلم يكن الدين الجديد مجرّد ميل اعتقادي لدى الإمبراطور، بل كان وسيلة أيديولوجيّة لترسيخ سلطته.

“جلال الدين أكبر” الإمبراطور المغولي في الهند في القرن السادس عشر كان مثالاً لمحاولة البحث عن مشتركات بين الأديان فانتهى به الأمر مؤسّساً ديناً جديداً يجمع بين الإسلام والهندوسية

شهد العالم منذ أواسط القرن العشرين مؤتمرات وندوات تحت عنوان حوار الأديان، أو الحوار الإسلامي المسيحي على نحوٍ خاصٍّ، تحت عناوين التقارب والتعارف والتعاون وقبول الآخر والتسامح، من دون أن يصل إلى حدّ الإقرار بتعدّد الحقّ. فكلّ أتباع دينٍ ما يعتقدون بأنّهم على الحقّ دون الآخرين، وعليهم أن يعتقدوا ذلك، وإلّا فقدوا انتماءهم دونما بديل، أو تحوّلوا إلى أيّ دين آخر، إن كانت كلّ الأديان متساوية ومتطابقة على صعيد واحد، بنظر كلّ المؤمنين. فهل من الممكن أن يتوحّد الناس، أو في أقلّ تقدير أن يتوحّد أتباع الديانات الإبراهيمية، في ظلال دين واحد؟ هذه الفرضية لا يقول بها أحد من العلماء الضليعين بالأديان أو المقارنة فيما بينها. هي رؤية أقرب إلى الفانتازيا التي لا ينتج عنها إلا أفكار هجينة غير مقبولة إطلاقاً من أتباع أيّ دين. هذا من حيث المبدأ. لكن ما هو المطروح اليوم، بعد تأسيس بيت العائلة الإبراهيمية في الإمارات، كامتداد لإطلاق وثيقة الأخوّة الإنسانية في شباط عام 2019؟ هل هو تمهيد للديانة الإبراهيمية كما يُقال؟ وما هي الإبراهيمية أصلاً؟ هل هي نوع من التأسيس اللاهوتي الممنهج للتخلّص من المنازعات، أم هي فقط التمهيد الأيديولوجي للتطبيع مع إسرائيل لا أكثر من ذلك؟ وما أثر هذا الاتجاه في الانتماء الفردي والجماعي إلى عقيدة الإسلام والالتزام بمندرجاتها، باعتبار أنّ المبادرة آتية من جهة إسلامية، فيما الأثر الموازي غير ملموس إطلاقاً، لا عند اليهود، ولا عند المسيحيين ممثّلين بالفاتيكان؟ هل هذا هو الاعتدال حصراً وما سواه هو التطرّف؟ من أين ظهر هذا المعيار الذي لن يُطبّق إلا على المسلمين، فيصبح التزام المسلم بدينه تطرّفاً، وإسقاط بعضه اعتدالاً؟ هذا بالضبط ما يقلق شيخ الأزهر الشيخ أحمد الطيب، مع أنّه كان من الموقّعين على وثيقة الأخوّة الإنسانية مع البابا فرنسيس. فالحوار مع الآخرين والتعاون معهم على قاعدة المشتركات الإنسانية، مطلوبان في كلّ آن. لكنّ التخلّي الأُحادي عن العقيدة باتجاه دين مشترك موهوم، لن يكون فيه إلا صاحب المبادرة وحده، هو أمر مرفوض. وحتى لو لم يكن هذا هو التوجّه أساساً، بل مجرّد التسامح مع الإبراهيميّين الآخرين والاعتراف بهم، إلّا أنّ مجرّد الإقرار بتعدّد الحقّ، أي أنّ كلّ الأديان على حقّ، في الوقت نفسه، يمثّل مشكلة في صميم العقيدة. فاليهود لا يعترفون لا بالمسيح ولا بنبوّة محمد. والمسيحيون متمسّكون بعقيدتهم التي تتجاوز أنبياء بني إسرائيل، ولن يعترفوا بمحمّد خاتم الأنبياء. أمّا المسلمون، فيؤمنون بكلّ الأنبياء السابقين، لكنّ محمّداً عندهم هو خاتم الأنبياء، ورسالته هي آخر الرسالات. فكيف نحصل على المشترك بين هذه العقائد المتناقضة؟ هل يكفي أن يكون النبي إبراهيم هو الجدّ المشترك؟ بل هل لكونه الجدّ الأعلى والرسول الأقدم، علينا أن نتبع ملّته؟ إنّ الآية 19 من سورة آل عمران تقرّر القاعدة الثابتة: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ}، بل إنّ الآية 85 من السورة نفسها تعلن بوضوح: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. وفي معتقد المسلمين أنّ محمّداً هو خير الرسل كلّهم، بمن فيهم النبي إبراهيم. ما سبق يختزل مضمون الفتوى القديمة التي صدرت عن اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في المملكة العربية السعودية، قبل 26 سنة، وكأنّها تحكي الواقع اليوم. ولذلك تجدّد التداول بها.

بيت العائلة الإبراهيميّة

ما هو إذاً مشروع بيت العائلة الإبراهيمية الذي افتُتح في 16 شباط الماضي بغياب شيخ الأزهر، وما الذي يرمز إليه. بحسب موقع اللجنة العليا للأخوّة الإنسانية (www.forhumanfraternity.org)، فإنّ هذا البيت رمز فريد للتفاهم المتبادَل والتعايش المتناغم والسلام بين مختلف أبناء الديانات وأصحاب النيّات الحسنة. ويضمّ المشروع مسجداً وكنيسةً وكنيساً يهودياً ومركزاً تعليمياً. ويجسِّد تصميم بيت العائلة الإبراهيمية، القيَم المشتركة بين اليهودية والمسيحية والإسلام، ويُعَدّ منصةً قويّة لإلهام التفاهم والقبول بين أصحاب المساعي الطيّبة. ويستلهم بيت العائلة الإبراهيمية رؤيته من حدث توقيع البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وشيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيّب، وثيقة الأخوّة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك. ويشرح الموقع أنّ هذا المعلم الحضاري سيكون مكاناً للتعلّم والحوار والعبادة، وسوف يفتح أبوابه أمام الجميع ليعكس بذلك إيمان دولة الإمارات العربية المتحدة بأهمّية قيم التسامح وكرم الضيافة. وستُتَاح للزوَّار فرصة التعرُّف على الخدمات الدينية وممارسة الشعائر المقدّسة داخل جميع أماكن العبادة. أمّا المبنى الرابع فهو لا ينتمي إلى أيّ دين محدَّد، وإنّما سيكون مركزاً تعليمياً يلتقِي فيه الناس كافّة كمجتمع واحد مكرَّس للتفاهم والسلام المتبادلين.

وبما أنّ الشكل يوحي بالمضمون، فإنّ التصميم المعماري لهذا البيت، بحسب الموقع الإلكتروني، رمز “للعالم الذي نريد أن نعيش فيه، عالم من التسامح، والانفتاح، والتقدّم المستمرّ. فتصميم المناظر الطبيعية والهندسة المعمارية للمباني يدلّان على المبادئ التي يقوم عليها هذا المكان الذي يُمكّن الأفراد من ممارسة العبادات إلى جوار تعزيز لغة الحوار والتفاهم بين الأديان. يُمثّل التصميم المجتمعات المتنوّعة من المصلّين، والمقيمين، والزائرين، كما أنّه يُطلق العنان للروح المُعاصرة المستمدّة من التقاليد والمستندة إلى رؤية مستقبلية متمثّلة في مبادئ القبول، والاندماج، والسلام”. ويضيف الموقع أنّ “التصميم يسعى إلى إيجاد صيغة مشتركة بين مباني الإيمان الثلاثة الضخمة، هادفاً إلى ترسيخها بتناغمٍ بصريٍ خارجي مع ضمان احتفاظها بالملامح المتفرّدةِ لكلّ دينٍ على حدة، حيث تتشابه الأحجام الثلاثة للنماذج المكعّبة الشكل، فتظهر في الساحة الوسطية كأنّها مبنى واحد نظراً إلى كونها مُتطابقة من حيث القياس والموادّ المستخدمة في البناء، مُتّحدة في ارتفاعٍ واحدٍ يضمن عدم طغيان أيّ مبنى على الآخر، في حين يعبّر كلّ مبنىً منهم عن كيانه المستقلّ”. ففلسفة المشروع تنضح من المعمار المادّي، وهي تُختصر بالاجتماع والافتراق في آن. الاجتماع في المكان، والافتراق في الخصائص. تلاقي المشترك بين الأديان من دون إغفال الفروق فيما بينها. وسيُتاح لكلّ الزائرين مشاهدة الشعائر، والمتلبّسين بها من المؤمنين، فهل سيكون الخطاب الديني المتداول في تلك المعابد الثلاثة خاضعاً للرقابة الذاتية، حتى تبقى فكرة المشترك بين الديانات الإبراهيمية من دون تشويش؟

كان اللافت موقف شيخ الأزهر ممّا يسمّى بالديانة الإبراهيمية، في تشرين الثاني 2021، بمركز الأزهر للمؤتمرات بمدينة نصر، حين أوضح أنَّه من منطلق إيماننا برسالاتنا السماوية، نُؤمن بأنَّ اجتماع الخلق على دِينٍ واحدٍ أو رسالةٍ سماوية واحدة أمرٌ مستحيل في العادة التي فطر الله الناس عليها، وكيف لا، واختلافُ الناس، اختلافاً جذريّاً، في ألوانهم وعقائدهم، وعقولهم ولغاتهم، بل في بصمات أصابعِهم وحديثاً بصمات أعينِهم، كلُّ ذلك حقيقةٌ تاريخية وعلمية. وقبل ذلك، هي حقيقة قُرآنية أكَّدها القرآن الكريم ونصَّ على أنَّ الله خلق الناس ليكونوا مختلفين، وأنّه لو شاء أن يخلقهم على مِلَّةٍ واحدة أو لونٍ واحد أو لغةٍ واحدة أو إدراك واحد لفعَل، لكنّه، تعالى، لم يشأ ذلك، وشاء اختلافَهم وتوزُّعَهم على أديان ولغات وألوان وأجناس شتّى لا تُعدّ ولا تُحصى، ثمّ بيَّن أنّ هذا الاختلاف باقٍ ومستمرّ في الناس إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها. وجاء في الآية 118 من سورة هود: ?وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ?. وقال الدكتور الطيب: “إنَّ انفتاح الأزهر على المؤسّسات الدِّينيةِ داخل مصر، وخارجها، هو من أجل البحث عن المشتركات الإنسانية بين الأديان السماوية، والتعلُّق بها لانتشال الإنسانية من أزمتها المعاصرة، وتحريرها مِمَّا حاق بها من ظلم القادرين، وبغي الأقوياء وغطرسة المتسلِّطين على المستضعفين”.

الفتوى السعودية القديمة وضعت الحدود الشرعية الواضحة قبل 26 سنة أمام أيّ محاولة لمزج الأديان بعضها ببعض، تحت عنوان وحدة الأديان، وهو ما يدلّ على قِدم الفكرة

التطبيع الإبراهيميّ

الاهتمام بتقارب الأديان أو وحدتها أو الديانة الإبراهيمية في المنطقة العربية، لا يمكن فصله عن مشكلة إسرائيل، وهي التي قامت على أسس توراتية في ما يخصّ الأرض الموعودة، وشعب الله المختار. وتتبّع الحراك الإبراهيمي المتجدّد، يعود بنا إلى عام 2000، والبرنامج التفاوضي في جامعة هارفارد الأميركية، الذي تبنّى فكرة “مسار إبراهيم”، ثمّ تبلورت بما سُمّي “مبادرة مسار إبراهيم Abraham Path Initiative”، وهي منظمة غير ربحية تأسّست عام 2007، لتنظيم رحلات السير على خطى إبراهيم في رحلته التي قام بها قبل آلاف السنين بين جنوبي تركيا إلى صحراء النقب، والتي تمتدّ على مسافة 1,200 كلم، وهي ليست مجرّد سياحة دينية، تمرّ عبر حلب ودمشق والقدس وأريحا ونابلس والخليل، بل هي فكرة إحياء القاسم المشترك بين الديانات الثلاث من خلال الجدّ المشترك، وتطبيع العلاقات الإنسانية بين شعوب المنطقة بما فيها الشعب الإسرائيلي. بل إنّ ما ورد في متن الفتوى السعودية يشير إلى أنّ الحديث عن وحدة الأديان الإبراهيمية، أقدم زمناً، بحيث كانت تُنشر في وسائل الإعلام زمن صدور الفتوى منتصف التسعينيات، آراء ومقالات تدعو إلى وحدة الأديان، وإلى بناء مسجد وكنيسة ومعبد في محيط واحد، في رحاب الجامعات والساحات العامة، ودعوة إلى طباعة القرآن الكريم والتوراة والإنجيل في غلاف واحد. والواضح أنّ هذه الدعوات جاءت عقب معاهدات أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل عام 1993، واتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل عام 1994، وتشجيع التطبيع مع إسرائيل عقب ذلك، فكان النبي إبراهيم رمز تلك المرحلة عبر المشاريع السياحية والثقافية المطروحة. والأمر نفسه أعقب اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل عام 1978. ففي العام الذي تلاه، سعى الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى بناء مجمّع للأديان في وادي الراحة في صحراء سيناء، يضمّ مسجداً، وكنيسة، وكنيساً، وإلى طباعة القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل، في غلاف واحد. وإحياء الإبراهيمية اليوم، له علاقة بإقامة إسرائيل علاقات مع كلّ من الإمارات والبحرين، ضمن ما سُمّي اتفاقات إبراهيم Abraham Accords، عام 2020.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…