مات حلّ الدولتين.. دعوة إلى قيام الدولة الواحدة

مدة القراءة 7 د

في إحدى الأغنيات الشعبية الفلسطينية القديمة لازمةٌ تردّد: “حيفا ويافا قبل جنين ونابلس”. حملت تلك المغنّاة في ثناياها صدى معارضاً لمشاريع تردّدت، ولا سيّما في سبعينيّات القرن الماضي، تروِّج لنضال متدرّج لإقامة “سلطة” وطنية على أيّ أراضٍ تحرَّر، أو تنظّر لبرنامج سياسي يحوّل فلسطين إلى مراحل تقدِّم جنين ونابلس على حيفا ويافا.

انطلقت حركة فتح في الأوّل من عام 1965، أي قبل حوالي عامين على حرب حزيران 1967. في أدبيّات ياسر عرفات وصحبه آنذاك امتداد لأدبيّات فلسطينية قديمة تسعى إلى إقامة دولة فلسطينية على كامل التراب الفلسطيني. حينها لم تكن القدس الشرقية ومناطق الضفّة الغربية وقطاع غزّة قد سقطت، وكان تحرير فلسطين يعني حيفا ويافا قبل سقوط جنين ونابلس.

من كان يستمع إلى إذاعة “صوت فلسطين” يتذكّر لاحقاً الشعار اليومي الصادح: “من أجل تحرير فلسطين.. كلّ فلسطين”. سقط كلّ ذلك. تتالت الهزائم والخيبات والنكسات، فانتقل ساسة فلسطين والعرب من ورائهم إلى ما يُطلَق عليه اسم “الواقعية السياسية”. صارت فلسطين خاضعة لنظرية المراحل، وتوزّع الهمّ الفلسطيني إلى فضاءات ثلاثة: فلسطينيّو 48 الذين باتوا جزءاً من دولة إسرائيل ومنخرطين في أمرها الواقع. فلسطينيو القدس والضفّة الغربية وقطاع غزّة الذين باتوا يسكنون في “أراضٍ محتلّة”، وفق التوصيف الأممي، قبل أن تعيد اتفاقات أوسلو تعريف هذه “المناطق” وتقسيمها إلى ثلاث أبجديّات “ألف وباء وجيم”. وفلسطينيو الخارج، سواء في مخيّمات اللجوء العربية أو بلدان الشتات في العالم.

وسط هذا الانهيار الكامل لفكرة الكينونة الفلسطينية، وفق منهجها المرحليّ أو نهائيّتها المتوخّاة في “أوسلو”، تمسّك الفلسطينيون والعرب والعالم بحلّ الدولتين

انهيار الكينونة الفلسطينيّة

حين ولد اتفاق أوسلو عام 1993 جرى ترويج مرادف له باسم”اتفاق غزة-أريحا”. ثمّ أتى منظّر حذق وأضاف إليه كلمة “أوّلاً”. أُريد لتلك العبارة “غزّة-أريحا أوّلاً” استعادة البرامج المرحليّة التي سبق اليسار الفلسطيني اليمين في التنظير لها والاستغراق في الاجتهاد بها. وأُريد لتلك العبارة التشاطر على مَن رأوا في “أوسلو” إجحافاً، وإسكات مَن لا يروا حيفا ويافا في أيّ أفق. أمّا أن يكون الاتفاق أوّليّاً لتلحقه مكمّلات أخرى، فذلك أمر لم يكن بيد الفلسطينيين، بل خاضع لموازين قوى خسروها وبات حتى هذا الـ”أولاً” بعيد المنال إلى درجة الترويج لدعوات لحلّ السلطة الفلسطينية وإنهاء هذه المهزلة وتسليم الأمر للاحتلال.

وسط هذا الانهيار الكامل لفكرة الكينونة الفلسطينية، وفق منهجها المرحليّ أو نهائيّتها المتوخّاة في “أوسلو”، تمسّك الفلسطينيون والعرب والعالم بحلّ الدولتين. جرى حشر فلسطينيّي الضفّة والقطاع في السجن الكبير وراء أسوار عالية تفصلهم عن فلسطينيّي “الخطّ الأخضر” وفلسطينيّي العالم. ارتضى الفلسطينيون مكرهين التخلّي عن فلسطينهم “التاريخية” والصلاة من أجل إقامة دولة ما، في يوم ما، على 22 في المئة من تراب فلسطين.

في حلّ الدولتين بلادةٌ من حيث أنّ إسرائيل أسقطت الخيار نظريّاً وعمليّاً وجعلته مستحيلاً واشتقّت من رفضه نصوصاً في دساتير كلّ القوى السياسية التي تعاقبت على الحكم منذ أكثر من عشرين عاماً. بالمقابل صار قبل ذلك حلّ الدولتين من أبجديّات النظام الدولي ومن الركائز التي تقوم عليها فلسفة الدول المانحة، وبات هذا الحلّ من أساسات مبادرة قمّة بيروت العربية لعام 2002، وهو الأصل الذي يشيّد النظام السياسي العربي عليه مقارباته للصراع الفلسطيني الإسرائيلي وحتى لعلاقاته مع إسرائيل. ومع ذلك فإن الحلّ قد مات إسرائيليّاً ولا يريد العالم دفنه ويخجل الفلسطينيون من نعيه.

 

الدولة المشتركة

نظّرت حركة فتح في نصوصها الأولى لإقامة دولة ديمقراطية مدنية على تراب فلسطين تضمّ كلّ السكّان بمختلف دياناتهم وتضمن أيضاً لكلّ المواطنين العدل والمساواة بغضّ النظر عن الدين والعرق واللون. شاب ذلك الهدف رومانسية، وربّما تعجّل غير جدّي وغير مقنع، ولا سيّما في شقّه الطوباوي الحالم. لكنّ المهمّ أنّ منطق الأمور هو في إقامة دولة على كامل فلسطين، أمّا نظام الحكم فهو شيء آخر. وإذا ما استحال على العقل الإسرائيلي القبول بدولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، فإنّ متنوّرين فلسطينيين، مثل إدوار سعيد وسري نسيبة وغيرهما، سخروا من قدرة فلسطين على استيعاب دولتين.

وفي الكتاب الذي أصدره باللغة الفرنسية عام 2012 كلٌّ من إيريك حزان وإيال سيفان بعنوان: “دولة مشتركة بين نهر الأردن والبحر”، اعتبرا أنّ “تقسيم فلسطين التاريخية إلى دولتين ليس إلا خطاباً يسمح لإسرائيل بإضفاء الشرعية على الاستيطان في الضفّة الغربية، ويبرّر استمرارية السلطة الفلسطينية في رام الله، التي ستفقد سبب وجودها إذا اختفى مشروع الدولة الفلسطينية”. 

قبل ذلك بعقود في عام 1948 كتبت المفكّرة اليهودية اليسارية حنّة أرنت أنّ “الحلّ الوحيد في فلسطين، هو دولة فدرالية واحدة تكون نواة لبنى فدرالية أكبر في الشرق الأدنى ومنطقة البحر المتوسط”. حينئذٍ اقترحت الحلّ لمكافحة تطرّف يهودي متوقّع. أوليس حلّ الدولة الواحدة ترياقاً رادعاً للنزوع اليميني الفاشي في إسرائيل هذه الأيام؟

الأبجديّات الثلاث

مات حلّ الدولتين. يعلن القيادي الفلسطيني محمد دحلان قبل أيام هذا الموت ناعياً تلك التجربة، داعياً إلى قيام الدولة الواحدة التي تتساوى داخلها حقوق الفلسطينيين والإسرائيليين. وقد يجوز تفسير هذا الموقف من زاوية المناكفة السياسية الفلسطينية-الفلسطينية، وسيُسال كثير من الحبر في هذا الشأن. وما أعلنه في مقابلة تلفزيونية لا يمكن أن يجيب على أسئلة فيها كثير من السياسة والتاريخ وإيقاظ لخرائط جيوستراتيحية ساكنة. غير أنّ هذا الموت ليس قراراً، بل هو واقع في خرائط المياه والاستيطان والموارد وهواجس الأمن وازدحام الأيديولوجية في إسرائيل التي لم تعد تنتج إلّا هروباً عقيماً من التطرّف إلى التطرّف، من بنيامين نتانياهو إلى إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.

مات حلّ الدولتين بعدما أصبحت الأبجديّات الثلاث متوزّعة إلى دويلتين في الضفّة والقطاع، وبعدما بات الانقسام الفلسطيني بنيويّاً نهائيّاً، وبعدما باتت أولويّات العرب أهمّ من تفاصيل الصراع اليومي في فلسطين وصارت كوارث المنطقة أكثر فداحة ودموية. قد لا يمكن لدحلان وحده إلّا أن يرمي حجراً داخل مستنقع راكد ينام على معزوفة الدولتين التي لا يسمعها أحد، فيما يموت شبّان نابلس وجنين والقدس وغزّة وغيرها من أجل حلّ لا قيامة له بعدما بات متقادماً وفي موت سريري.

سألتُ أحد القيادات الفلسطينية قبل عام عمّا يقف وراء هذا الكسل الفلسطيني في التواصل مع البيئة العربية وتكثيف ذلك لتعزيز الدعم والمدد وتصليب تلك الحاضنة. أجابني باستخفاف: “بعد ناقص أنو نقنع العرب بقضيّتنا”. ربّما يعبِّر ردّ الفعل الانفعالي هذا عن الركون إلى “حتميّات” لطالما وُعدنا بها، ومنها حلّ الدولتين الذي لا يستحقّ عناء ولا جهاداً.

إقرأ أيضاً: السلطة الفلسطينيّة: استثمار أميركيّ متعثّر

كانت فلسطين تحرّك قبل عقود قوى واسعة في العالم. وكان العقل الفلسطيني ناشطاً دينامياً محرّضاً، فإذا به نام على “سلطة” و”دولة” وعلى فوقيّة أخلاقية لا تحفّزه على الفعل. ربّما هذا الجيل الشابّ الذي يُقلق إسرائيل والذي لا عنوان له ولا قائد يرعاه ولا نصوص تفسّر سعيه هو أصدق تعبير عن موت مرحلة وطيّ صفحات والتجرّؤ على التمرّد على احتلال وعلى منظومة تنتظر منه يوماً فتات دولة معدومة من أمل. 

يحصّن دحلان موقفه بإعلانه الزهد بأيّ منصب وعزوفه عن أيّ ترشّح في السلطة “الحالية والمقبلة”، معلناً ما كان خافتاً يُهمَس به منذ سنوات: فلنذهب إلى حلّ الدولة الواحدة، أمّا كيف؟ لنتجادل ونناقش العالم. فالأمر تستحقّه “حيفا ويافا كما جنين ونابلس”.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…