أعرف ما الذي ذكّرني بأستاذي الألماني جوزف فان أس المتوفّى عام 2021 على أثر مرضٍ عُضالٍ لم يمهله طويلاً. فان أس عنده أربعون كتاباً ومئة دراسة قصيرة، تدور كلّها على التاريخ الديني والفكري والثقافي للإسلام. ذكّرني به أنّه هو الذي عرّفني عام 1975 بالجامعة بمدينة توبنغن الألمانية على كتاب حنّة أرندت: “أيخمان في أورشليم”. كان يناقشنا في الـTheodizee أو مسألة الخير والشرّ في الديانات، وفي علم الكلام والفلسفة بعد القرن السابع عشر، والتقدير والقدرة الإلهية والفعل الإنساني والمسؤوليّات. كنت مكلَّفاً بالتحضير عن توجُّه المعتزلة، وزميلنا الإسباني عن اسبينوزا ولايبنتز والثالث في لاهوت يوحنّا الدمشقي.. إلخ. وفي الاستطراد وصلنا إلى فجر الضمير لجيمس هنري بريستد، وقال فان أس في آخِر الدرس: تعالوا نبتعد قليلاً عن اللاهوتيات وأريدكم أن تقرأوا جميعاً عمل حنّة أرندت عن تفاهة الشرّ أو ابتذاله. وما غابت مسألة الشرّ عن النقاشات مع فان أس بعدما تخرّجت من عنده عام 1977 وإلى استشهاد الحريري وحتى أزمة الفراغ من أجل الإرغام على انتخاب عون (2014-2016).
في الصراع على رئاسة الجمهورية بعد نهاية فترة أمين الجميّل عام 1988 كان الأب مبارك يرى أنّ الغرام بالرئاسة صار داءً عند الموارنة قد يؤدّي إلى زوال النظام اللبناني
ما هذا الذي يجري في لبنان؟
كان فان أس يسأل مثل عرب وأجانب كثيرين: ما هذا الذي يجري في لبنان وعليه، ومن أين هذا الشرّ؟ وما كان مقتنعاً بأطروحة الراحل غسان تويني بشأن حروب الآخرين على أرض لبنان، وسواء أكان المتّهمون الإسرائيليّين أو الأميركيّين أو السوريّين أو الإيرانيّين. كان يقول لنا: حتى فنلندا الصغيرة استطاعت تحييد الخطر الروسي. بعضكم منحازٌ لإيران والبعض الآخر لسورية، والبعض الثالث لأميركا، فمن المنحاز منكم إلى وطنكم؟! ويتابع: الأفعال شرّيرة ولا شكّ، إنّما أنا على شكّ في أنّ المشاركين من اللبنانيين هم في الغالب من الشخصيّات التافهة أو المبتذلة. المسألة في حالتكم ارتفعت عن السياسة إلى الأخلاق. هناك أزمة أخلاقية لا يبرّرها شيء في تاريخكم الحديث وظروفكم، كأنّما ليس هناك أحد يجرؤ على تحمّل المسؤولية الأخلاقية. العمل السياسي في الأصل من أشرف المِهَن، لكنّه في حالتكم تفاهة وابتذال بلا تفكير ولا مسؤوليّة. كلّ الوقت تذكر لي يا رضوان كلام ماكس فيبر (1864-1920) عن أخلاق الاعتقاد أو الاقتناع وأخلاق المسؤولية لدى العالِم والسياسي. وقد اختفى النوعان لدى السياسيين فما عادوا يميّزون بين الخير والشرّ. لكن أين هي أخلاق الاقتناع وأخلاق المسؤولية لدى الحقوقيين ولدى الأساتذة ولدى المثقّفين؟!
لا ينبغي أن يتحوّل سؤال الخير والشرّ حتى في الحياة السياسية إلى سؤالٍ عبثيٍّ يدلّ على قلّة الحيلة والعجز. فقد عانى الفلسطينيون معاناةً منقطعة النظير، لكنّهم لم يفقدوا الأمل ويتابعون النضال. وعانى السوريون معاناة هائلة حتى إنّه مات منهم بالزلزال في تركيا بقدر ما مات منهم في سورية! لكنّني سمعتُ على إحدى القنوات سوريّاً يقول إنّه لجأ مع أطفاله الأربعة إلى تركيا ثمّ إلى ألمانيا، وقد كبر الأولاد، لكنّه يريد العودة إلى سورية لأنّهم غرباء في كلّ مكانٍ إلّا في وطنهم. هذا العدوّ الخارجي القاهر لا نجده في لبنان أو لا يحول التدخّل الخارجي دون قدرة اللبنانيين على التصرّف والتغيير. فالعجز أو الاختلاف متعمَّد ويريد من خلاله السياسي والمثقّف التابع له إظهار قدرته على التعطيل وليس على الفعل. وهذا إن لم يكن شرّاً فما هو الشرّ؟! إنّ المشكلة الأُخرى هي مشكلة الغرور، فلا أحد يريد الاعتراف بتواضع قدراته أو إمكان الاستغناء عنه أو الركون إلى وطنيّ آخر. وفي ذلك جهلٌ وشرٌّ إجراميّ وأخلاقيّ بحقّ الوطن والمواطنين.
أنطوان مسرّة آخر الفقهاء الدستوريين..
ذكر فان أس نوعَيْ الأخلاق لمناسبة وفاة الأب يواكيم مبارك (1924-1995) صاحب كتاب “إبراهيم في القرآن”، والخماسيّة عن الإسلام، وجمعه لأعمال أستاذه لويس ماسينيون القصيرة (Opera Minora). فقد كان رأيه أنّه لم يلحظ في الشخصيّات اللبنانية المثقّفة التي عرفها مَنْ يشبه مبارك في نزاهته وإحساسه بالمسؤولية الأخلاقية، سواء في تأمّلاته في المسألة اللبنانية أو في علاقات المسيحيين بالمسلمين، والمسيحية بالإسلام.
في الصراع على رئاسة الجمهورية بعد نهاية فترة أمين الجميّل عام 1988 كان الأب مبارك يرى أنّ الغرام بالرئاسة صار داءً عند الموارنة قد يؤدّي إلى زوال النظام اللبناني أو فقد الرئاسة وصلاحيّاتها لغير اللبنانيين. وقد صحَّ تنبّؤه، فقد أخذها السوريون ثمّ الإيرانيون، ولا أحد يدري إلى أين تؤدّي التحوّلات الجارية الآن.
إقرأ أيضاً: “الشرّ التافه”: من أيخمان النازي… إلى النظام اللبناني
توفّي يواكيم مبارك مقهوراً من زمان. وأخيراً توفّي فان أس. وقد تعرّفت قبل عقدٍ ونيّف على شخصيّةٍ لبنانية أخرى لا تقلُّ نزاهةً وإحساساً بالمسؤولية، وهي شخصيّة الفقيه الدستوري أنطوان مسرّة. مسرّة لا يعتقد أنّ هناك شرّاً تافهاً ولا شرّاً بالمصادفة. ويعتقد أنّ العدوى المارونية أصابت شيعة الحزب، وصارت وباءً لبنانيّاً عامّاً. هو لا يعرف الحقد ولا يفقد الأمل، فكما قال أبراهام لنكولن: لله مقاصده الكلّيّة التي لا يعرف كنهها ومآلاتها سواه.
لمتابعة الكاتب على تويتر: RidwanAlsayyid@