يمثّل الصعود الصيني حرجاً وتهديداً كبيراً للولايات المتحدة الأميركية التي تكافح بإصرار من أجل تأطير وتجميل علاقتها المتدهورة بالصين هرباً من المعركة. وفي هذا السياق تندرج الحوادث التالية:
1- حادثة المنطاد الشهيرة، واتّهام واشنطن الصين بالتجسّس وبانتهاكها السيادة الأميركية.
2- المواجهة الأخيرة فوق بحر الصين بين سلاحَيْ الجوّ الصيني والأميركي، التي كادت أن تتحوّل إلى اشتباك.
تتذرّع أميركا بالضرورات الأمنيّة لتعيق التطوّر الاقتصادي والتكنولوجي المتسارع للصين. وهذا يدلّ على توفّر بعض مظاهر الحرب الباردة، على الرغم من نفي الطرفين الدائم لها ورفضهما الحديث عنها.
يشكّل التقدّم الصيني ملمحاً من ملامح العالم المأزوم. وهنا يمكن استعادة القول المنسوب إلى نابليون بونابرت: “دع الصين نائمة، فإذا استيقظ التنّين اهتزّ العالم”.
فهل استيقظ المارد الصيني؟
يمثّل الصعود الصيني حرجاً وتهديداً كبيراً للولايات المتحدة الأميركية التي تكافح بإصرار من أجل تأطير وتجميل علاقتها المتدهورة بالصين هرباً من المعركة
هل تكبح أميركا الصين؟
تحوّلت الصين في أقلّ من سبعين عاماً من دولة معزولة إلى واحدة من أعظم القوى الدولية. تحدّت نفسها في العديد من المبارزات الداخلية:
– تفشّي فيروس كورونا.
– تصاعد الاحتجاجات الشعبية والخلل الديمغرافي والسكّاني.
– البطء في النموّ الاقتصادي والتراجع في القطاع السياحي.
– بروز أزمة العقارات وتراجع معدّلات الاستثمار وارتفاع معدّلات البطالة.
– ثبات وارداتها وانخفاض صادراتها.
اعتراف بايدن…
اعترف الرئيس بايدن في خطاب سابق له أنّ الصين هي التحدّي الاستراتيجي الأكثر أهميّة. لذا عمدت الإدارة الأميركية إلى نسج شبكة تحالفات مختلفة بهدف محاصرة التمدّد الصيني، خاصة في منطقة المحيطين. ودخلت في حلفَيْ “أوكوس” مع بريطانيا وأستراليا، و”كواد” مع اليابان والهند وأستراليا، لمحاصرة “التنّين”. والتساؤل هنا:
– هل تبقى بكين في موقف دفاعي رافضة الأحلاف؟
– هل العالم مقبل على منافسة ومزاحمة حتمية؟
– هل العالم مقبل على مأساة جديدة للنظام السياسي العالمي؟
نجحت أميركا تاريخياً في منع أربع دول عظمى من الهيمنة العالمية، وهي:
– الإمبراطورية الألمانية خلال الحرب العالمية الأولى.
– الإمبراطورية اليابانية خلال الحرب العالمية الثانية.
– ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية.
– الاتحاد السوفياتي في حقبة الحرب الباردة.
فهل تكون الصين القوّة الخامسة التي تكبحها أميركا؟
اعترف الرئيس بايدن في خطاب سابق له أنّ الصين هي التحدّي الاستراتيجي الأكثر أهميّة. لذا عمدت الإدارة الأميركية إلى نسج شبكة تحالفات مختلفة بهدف محاصرة التمدّد الصيني
تكتيك صينيّ بارد
هاجمت روسيا أوكرانيا وتمدّدت فيها بالطريقة العسكرية التقليدية. أمّا الصين فتغزو العالم وتتوسّع اقتصادياً “بدم بارد” تكتيكي واقتصادي عبر “طريق الحرير” الناعم وليس بالحرب. تشدّد دبلوماسيّتها على ضرورة التخلّي عن فكرة الحرب الباردة وتحالفاتها. وتفضّل الصين نموذج العلاقات الثنائية القوية والاستراتيجية. لا تؤيّد أبداً سياسة الأحلاف، وترفض توسّع حلف الناتو. فالعالم بحسبها يحتاج إلى نظام كوني عقلاني متعدّد الأقطاب وبراغماتي تحتلّ فيه الدول الآسيوية مكانة أفضل. حتى إنّ السيطرة بالنسبة إلى الصين باتت مسألة وقت. فكلّ المعطيات والمؤشّرات لصالحها. هي تثق بنفسها على الرغم من تحدّياتها الخارجية والدولية، وأهمّها:
– الأزمة التايوانية.
– توتّر العلاقات مع واشنطن.
– غموض علاقاتها الاستراتيجية بروسيا.
– قدرتها على تحسين علاقاتها بجيرانها.
– سلبية علاقتها بالغرب الذي يتوافق مع أميركا على ضرورة كبح الصين.
انتهازيّة وخطأ أميركيّان
خلال الحرب الباردة أوصت الإدارة الأميركية وعملت على دمج الصين في النظام الغربي ومساعدتها اقتصادياً لسببين:
– لاحتواء الاتحاد السوفياتي ونشر الديمقرطية فيه بدلاً من نموذجه.
– إبطاء النموّ الصيني والسيطرة على تقدّمها من خلال التعامل معها.
لذا يؤيّد فريق كبير في واشنطن اليوم ضرورة تخلّي أميركا عمّا يسمّى “سياسة الانخراط”. إذ يُعدّ التنافس الصيني – الأميركي أمراً واقعاً لا مناصّ منه. السبب في ذلك هو الضغوط التي تشكّلها بنية النظام الكوني المقرونة بسياسات القوى الدولية.
هنا يجب على الولايات المتحدة التنبّه من أمرين اثنين:
– الصين الحالية ليست بقوة الاتحاد السوفياتي السابق بل هي أقوى بكثير ومرتاحة لوجيستياً.
– تقلّد الصين أسلوب أميركا في الهيمنة.
لا توجد قوة عظمى أكثر عدوانيةً من أميركا. فهي تسعى بعزم إلى تيسير نموّ الدولة المنافسة لها (الصين) لضرب دولة أخرى متخاصمة ومتحاربة معها (روسيا). هكذا فعلت الولايات المتحدة مع الصين أثناء الحرب الباردة. وهنالك ما هو أخطر: عدم قدرة أميركا على ترميم هذه الخطيئة التي آمنت بها شخصيات أكاديمية مرموقة مثل زبيغنيو بريجنسكي وهنري كيسنجر. فانقلب اليوم السحر على الساحر بتقارب صيني – روسي. وليس أمام أميركا سوى الاحتواء من خلال السياسة الواقعية.
يؤيّد فريق كبير في واشنطن اليوم ضرورة تخلّي أميركا عمّا يسمّى “سياسة الانخراط”. إذ يُعدّ التنافس الصيني – الأميركي أمراً واقعاً لا مناصّ منه
لكن هل وصلت الصين إلى ذروة قوّتها؟
لهذه الغاية تحوّلت الصين إلى دولة أمنيّة وأيديولوجية. عزلت مجتمعها داخلياً وتغزل شراكات استراتيجية عبر سلطتها السياسية الحاكمة دولياً. وتبني جيشاً قويّاً وحديثاً. لذا فإنّ خوض حرب باردة جديدة هو مواجهة ومنافسة حتمية ومرصودة أمام كلّ من الصين وأميركا.
تلتزم الصين بالدور الحيادي. تؤيّد روسيا لكن بحيادية. تؤكّد عمق العلاقات مع روسيا وتصفها بـ”الاستراتيجيّة الثابتة والهادفة إلى خلق التوازن الأممي الجديد الطارد للأحلاف والمتّصف باللامركزيات القطبية”.
صُدمت الصين بالمعوّقات التي واجهتها روسيا في المرحلة الأولى من قتالها في أوكرانيا. قلقت من فشل روسيا في تحقيق النصر الشامل والحاسم. وهذا يحمل في طيّاته استياء من الصراع لأنّه يُلفت الانتباه إلى “الستاتيكو التايواني”. سبّبت الحرب على أوكرانيا مشكلة حقيقية للصين. كانت تريد انتصار روسيا لتنقضّ على تايوان. لذا أُجبرت على التفكير مرّتين قبل أن تقرّر التصرّف في الجزيرة.
مبادرة الأمن العالميّ الصينيّة
هي خطّة سلام صينية، فما هي آليّاتها التفصيلية؟ وهل تحظى بالقبول؟ وهل يمكن اعتبارها مسوّدة تسوية للنزاع؟
ظهرت مبادرة الأمن العالمي الصينية أخيراً، وتحمل في ثناياها بنوداً كبيرة:
– احترام السيادة الدولية لكلّ دولة مستقلّة.
– التسليم بمبدأ وحدة أراضي الدول وقدسيّة أسس المواثيق الدولية والأممية.
– مراعاة المصالح الأمنية المشتركة لجميع الدول.
أعلنت الصين بحماسة شديدة نيّتها لعب دور بنّاء وعادل في الأزمة الروسية – الأوكرانية، والمساهمة في تحصين السلام العالمي لعدّة أسباب أبرزها:
– الحفاظ على مكانتها وشراكتها الاقتصادية، المحرّك الأساس لتمدّدها وتوسّعها الإمبراطوري. وتبديل الشكّ الأوروبي حيالها باليقين، واستحواذها على نوع من الثقة لتكون عنصر ضمان وجذب على المسرح الأممي.
– وخز بالون القطبية الأميركية الواحدة من خلال نظرية “الانقسام الاختزالي” التي تسرق من أميركا وهجها كـ”وسيط وحيد لحلّ العقد عالمياً”. وهذا بعدما أضحت طرفاً.
– تكريس واقعية التنوّع والتعدّدية المغايرة، بناء على مبدأ “الاختزال المتساوي”، أي العالم المتعدّد الحيثيّات، حيث “الدول الكبرى” تكون “متعادلة”.
– استثمار الحرب في أوكرانيا وصداقتها مع الدبّ الروسي كخطوة الى الأمام. فعين الصين على تايوان، لتحصّن نفسها من أيّ منافسة أو مواجهة مقبلة على تايوان مع أميركا.
إقرأ أيضاً: بايدن وبوتين على حافة الهاوية النوويّة
ظهرت مسوّدة المبادرة الصينية في الذكرى السنوية الأولى لبدء الحرب في أوكرنيا، وأتت بعد الرسائل الخطابية البوتينيّة التي علّق فيها فلاديمير بوتين عضويّة بلاده من معاهدة “نيو ستارت” للحدّ من السلاح النووي، والبوتينيّة التي صرّح فيها جو بايدن بعدم السماح بـ”انتصار روسيا”، في خضمّ الصراع بين الأوتوقراطية والديمقراطية وبين الشرق والغرب. لكنّ السبب الحقيقي الكامن وراء هذه المبادرة هي تايوان. ومنه نفهم تكرار الصين عدم جواز المقارنة بين تايوان وأوكرانيا. فأوكرانيا دولة مستقلّة فيما تايوان جزء لا يتجزّأ من الصين الواحدة.
فهل تقف الصين مع وحدة أوكرانيا ضدّ التمدّد الروسي، في سبيل الحفاظ على وحدتها مع الجزيرة المتمرّدة؟