تسعى الصين إلى توسيع نطاق وجودها في الشرق الأوسط لتلبية احتياجاتها الهائلة من الطاقة، وترى في مضيق هرمز أهمّ ممرّ لنقل النفط في العالم، والسبيل الوحيد لتحقيق هدفها. لذا تسعى إلى الاستثمار في الموانىء الخليجية المتاخمة له، فيما تخشى واشنطن من أن تتحوّل الموانئ “المدنية” إلى “مواقع عسكرية” لجيش التحرير الشعبي الصيني.
يعرض مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في واشنطن تقريراً موسّعاً عن الاستراتيجية التي تعتمدها الصين لتحقيق أهدافها في مضيق هرمز الذي يمرّ عبره حوالي ثلث النفط الخام المنقول في العالم بحراً. ويوضح انعكاسات توسّع النفوذ الصيني في شبه الجزيرة العربية على دول المنطقة وسوق الطاقة.
المدنيّ والعسكريّ في الإمارات
ورد في التقرير أنّ الصين تعمل على توسيع وجودها في الشرق الأوسط، وأنّ الشركات الصينية استثمرت قرب مضيق هرمز بكثافة في الموانئ والبنية التحتية للطاقة، وأنّ جيش التحرير الشعبي وضع هذا الممرّ نصب عينيه. وقد يستخدم الصينيون الاستراتيجية التي سبق أن لجأوا إليها في جيبوتي حيث حقّقوا نجاحات تجارية عزّزت أنشطتهم العسكرية والاستخبارية. وكانت الصين أقامت أوّل منشأة عسكرية خارجية لها عام 2017 على بعد 110 كيلومترات من مضيق باب المندب، الممرّ المائي الضيّق الذي يعدّ، إلى جانب قناة السويس، شرياناً مهمّاً لنقل البضائع بين أوروبا وآسيا. وقبل افتتاح المنشأة العسكرية، ضخّت الشركات الصينية مليارات الدولارات في جيبوتي لتطوير الموانئ، وبناء سكك الحديد والمطارات، وإنشاء منطقة للتجارة الحرّة مترامية الأطراف، معتمدة استراتيجية دعاها بعض الأكاديميين الصينيين “العمل المدني أولاً، ثمّ العسكري”. واستثمرت الصين في البنية التحتية التجارية، ثمّ حوّلتها لاحقاً لدعم الجيش، فحقّقت نفوذاً سياسياً كبيراً جعل جيبوتي، وفقاً لعلماء عسكريين صينيين، “قاعدة استراتيجية قويّة” تضمن لها تأمين طرق التجارة المهمّة.
يمكن لأجهزة الاستشعار في محطات الموانئ الصينية المساعدة في جمع المعلومات الاستخبارية
قد تتطلّع الصين اليوم إلى إنشاء نقطة قوة استراتيجية أخرى لحماية تجارتها على طول مضيق هرمز. وتدرك وزارة الدفاع الأميركية أنّه “منطقة تركيز معروفة” للخطط العسكرية الصينية.
شيّدت الصين في الإمارات العربية المتحدة مرافق في ميناء الشيخ خليفة، إضافة إلى خط أنابيب النفط الذي يمتدّ إلى ميناء الفجيرة. وهي تستثمر في سلطنة عمان المليارات في ميناء الدقم الجديد. لكنّها قد ترسي قاعدة لجيش التحرير الشعبي الصيني في المضيق. وفي عام 2021 استوردت الصين ما قيمته 128 مليار دولار من النفط الخام من دول خليجية عبر مضيق هرمز. وهذا يزيد بثلاثة أضعاف عمّا استوردته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مجتمعين. ونبّه محلّلون في الصين إلى أنّ ما يزيد على 45 في المئة من واردات البلاد من النفط تمرّ عبر المضيق، ودعوا إلى تعزيز التعاون مع الشركاء الإقليميين لضمان مرور آمن لموارد الطاقة.
من عام 2008 إلى عام 2012 شيّدت الشركة الصينية للهندسة وإنشاءات البترول خطّ أنابيب نفط من حبشان إلى الفجيرة يجانب مضيق هرمز بامتداد حوالي 380 كيلومتراً وبتكلفة قدرها 3.3 مليارات دولار. وإلى أكثر من 160 كلم إلى الغرب، نفّذت الصين مشاريع اقتصادية مهمّة في ميناء خليفة. فقد وقّعت شركة تابعة لشركة الشحن العملاقة كوسكو اتفاقية بقيمة 738 مليون دولار في عام 2016 لبناء محطة حاويات ضمن اتفاقية مدّتها 35 عاماً تتمتّع الصين بموجبها بحقوق حصرية في تصميم المحطة وبنائها وإدارتها.
في تشرين الأول 2022 فازت شركة China Harbour Engineering Company للهندسة وإنشاءات البترول الصينية بمناقصة لبناء ساحة حاويات جديدة بمساحة 700 ألف متر مربّع و36 مبنى إضافياً في الميناء. كما تشارك شركات صينية عدّة في بناء شبكة سكك الحديد الوطنية في الإمارات العربية المتحدة التي ستربط العديد من الموانئ بالمراكز التجارية والصناعية الرئيسية في جميع أنحاء شبه الجزيرة العربية.
وتتجاوز أنشطة الصين في الإمارات الاستثمارات. ففي كانون الثاني 2020 توقّفت فرقة بحريّة تابعة لجيش التحرير الشعبي مكوّنة من ثلاث سفن لمدّة خمسة أيام في ميناء خليفة، وزارت قاعدة عسكرية إماراتية قريبة بهدف دعم مهمّات الحراسة الصينية لمكافحة القرصنة في خليج عدن.
وهناك أدلّة على أنّ الصين تريد وجوداً عسكرياً أكثر ديمومة في الإمارات العربية المتحدة. وقد أدرجت وزارة الدفاع الصينية دولة الإمارات العربية المتحدة بين الدول التي خطّط جيش التحرير الشعبي لإنشاء منشأة عسكرية خارجية فيها. في عام 2021 كان ميناء خليفة موضع جدل عندما اتّهمت وكالات الاستخبارات الأميركية الصين بالبدء سرّاً في بناء منشأة عسكرية في الميناء. وتشير التقارير إلى أنّ واشنطن حذّرت المسؤولين الإماراتيين من أنشطة الصين، ويبدو أنّ الصين أوقفت العمل في المنشأة المعنيّة.
حتى من دون منشأة عسكرية رسمية فإنّ جيش التحرير الشعبي لديه خيارات لدعم عمليّاته في المنطقة. يمكن لأجهزة الاستشعار في محطات الموانئ الصينية المساعدة في جمع المعلومات الاستخبارية عن الجيوش الأخرى. ومن المعروف أنّ أفراد جيش التحرير الشعبي يعملون داخل الشركات الصينية، وهو ما يمنح هذا الجيش منصّة إضافية لجمع المعلومات الاستخبارية. الأهمّ من ذلك، يطلب قانون الدفاع الوطني الصيني للنقل الذي صدر عام 2017 من الشركات الصينية العاملة في الشحن الدولي “تقديم المساعدة للأفراد وإعادة إمداد السفن والطائرات والسيارات المشاركة في عمليات الإنقاذ الدولية والمرافقة البحرية والعمليات العسكرية للدفاع عن المصالح الوطنية”. لذا يمكن لبحرية جيش التحرير الشعبي الاستفادة من الشركات الصينية العاملة في ميناء خليفة.
قد تتطلّع الصين اليوم إلى إنشاء نقطة قوة استراتيجية أخرى لحماية تجارتها على طول مضيق هرمز. وتدرك وزارة الدفاع الأميركية أنّه “منطقة تركيز معروفة” للخطط العسكرية الصينية
في عُمان
توظّف الصين استثمارات استراتيجية مماثلة في الدقم، على الساحل الجنوبي لسلطنة عُمان المجاورة. في أيار 2016 وقّعت شركة “وانفانغ عُمان”، وهي كونسورتيوم من الشركات الصينية الخاصة، عقد إيجار لمدّة 50 عاماً مع هيئة المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم للمشاركة في تطوير المجمّع الصناعي الصيني العُماني (الدقم)، واستثمار حوالي 10.7 مليارات دولار أميركي لتطوير مدينة صناعية تبلغ مساحتها حوالي 13 كيلومتراً مربّعاً داخل المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، وتشمل مصفاة نفط ومحطة للطاقة الشمسية ومحطة نفط وغاز وصناعات أخرى. وهناك مخطّطات لإنشاء مناطق سياحية وإسكانية.
تعتبر استثمارات الصين في الدقم تجارية بطبيعتها، لكنّها تذكّرنا بـ”نموذج بورت – بارك – سيتي” أو نموذج منطقة شيكو، المدينة المينائية الصناعية والتجارية الناهضة التي استخدمتها الصين لاكتساب نفوذ سياسي واقتصادي كبير في البلدان المضيفة. يستلزم هذا النموذج استثمار الشركات الصينية بكثافة في تطوير المجمّعات الصناعية المرتبطة بالموانئ وربطها بإنشاء مدن جديدة. هذا النموذج استخدمته الصين لإحداث تأثير كبير في بلدان أخرى، بما في ذلك باكستان وسريلانكا وبيلاروسيا وتوغو.
يمكن لاستثمارات الصين في الدقم أن تساعدها في إرساء منشأة عسكرية ثابتة هناك. فالدقم نقطة محورية للعديد من الجيوش، وقد أنشأت المملكة المتحدة قاعدة دعم لوجستي مشتركة خاصة بها هناك في عام 2017، وحصلت القوات البحرية الأميركية والهندية على إذن للاتّصال بالميناء في الدقم.? وقد يعقّد وجود الجيش الاميركي وغيره من الجيوش الأخرى في الدقم جهود الصين لتعزيز وجودها العسكري. لكنّ دول المنطقة أظهرت بوضوح حيادها تجاه الشركاء الأمنيين المختلفين. فإلى جانب القاعدة الصينية في جيبوتي منشآت عسكرية أميركية وفرنسية وإيطالية ويابانية وسعودية أيضاً. وتردّدت على ميناء صلالة العماني، الواقع على بعد حوالي 480 كيلومتراً جنوب غرب الدقم، بكثرة السفن البحرية الصينية المشاركة في عمليات مكافحة القرصنة، ووافقت عمان في عام 2019 على توسيع وصول البحرية الأميركية إليه وإلى الدقم. وأظهرت مثلَ هذه الازدواجيّة الإماراتُ التي تتمركز فيها القوات الأميركية والفرنسية في قاعدة الظفرة الجوية، على بعد 60 كيلومتراً من ميناء خليفة، حيث رست السفن البحرية التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني.
قد يعكس هذا الحياد اعتراف القوى الإقليمية بضرورة التعامل مع نظام دولي تهيمن عليه بشكل متزايد المنافسة بين الولايات المتحدة والصين. وتستفيد دول مثل الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان من الحفاظ على علاقات وثيقة مع كلتا القوّتين الاقتصاديّتين العظميَين.
أسطول “المياه الزرقاء” وهواوي
يبقى أن نرى ما إذا كانت الصين ستطوّر منشأة عسكرية رسمية في شبه الجزيرة العربية ومتى؟
على الرغم من أنّ الاستثمارات الصينية تمتدّ إلى ما وراء الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان لتشمل جهات إقليمية أخرى، فإنّ جيش التحرير الشعبي الصيني يبحث في السنوات المقبلة عن طرق لتعزيز موقعه في المنطقة. فازدياد احتياجات الطاقة في الصين يدفع القادة الصينيين إلى التركيز على تأمين التدفّقات التجارية الحيويّة. وهم ينفقون مليارات الدولارات لتحويل جيش التحرير الشعبي إلى قوة قتالية “عالمية المستوى”. يتضمّن هذا الجهد إنشاء أسطول “المياه الزرقاء” القادر على إبراز القوة العسكرية بعيداً عن شواطئ الصين، وتحتاج لذلك إلى طرق وصول إلى المنشآت الخارجية. وفي سعيها إلى تحقيق طموحاتها المتزايدة يتعيّن على الصين أن تبحر في بيئة سياسية مثيرة للجدل على نحو متزايد. إذ تضغط الولايات المتحدة والدول ذات التفكير المماثل من أجل صدّ الإصرار العسكري الصيني المتنامي، الذي قد يقود بكين إلى تحقيق أهدافها ببطء وبشكل تدريجي.
يشعر المسؤولون في واشنطن بقلق متزايد من التحدّيات التي تفرضها الصين في المنطقة. وتُظهر بعض المؤشّرات أنّ الوجود الصيني المتزايد قد أثّر على شراكات واشنطن في المنطقة، وساهمت مخاوف الولايات المتحدة من احتمال بناء الصين قاعدة عسكرية في ميناء خليفة واختيار الإمارات العربية المتحدة لشركة هواوي شريكاً مفضّلاً لها لشبكة 5G في عام 2019، في تجميد الولايات المتحدة بيع الإمارات المقاتلات الشبح F-35 وغيرها من المعدّات في عهد إدارة ترامب. وهناك مخاوف من احتمال استخدام معدّات هواوي الصينية في التجسّس على الطائرات المبيعة إلى الإمارات.
إقرأ أيضاً: الودّ المفقود بين الصين وأميركا
قد تُعيق هذه النكسات طموحات واشنطن، على الرغم من إظهار رغبتها في الابتعاد عن الشرق الأوسط. وتظلّ الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان شريكين إقليميَّين مهمّين للولايات المتحدة. إذ استضافت الإمارات ألوف العسكريين الأميركيين، على مدى العقد الماضي (2011-2021). وكانت الإمارات رابع أكبر مشترٍ للأسلحة من أميركا بعد كوريا الجنوبية وقبل اليابان. ولعبت عُمان دوراً تفاوضياً في المحادثات الأميركية – الإيرانية التي أدّت إلى اتفاقية العمل الشاملة المشتركة النووية في تموز 2015.
هناك سيناريوهات محتملة يمكن أن يلعب فيها جيش التحرير الشعبي الصيني دوراً بنّاءً في المنطقة. ويمكن للجهود الصينية أن تحقّق الاستقرار في أسواق الطاقة العالمية. لكن يبقى أن نرى كيف سيكون ردّ فعل الجهات الفاعلة في الشرق الأوسط على مثل هذا السيناريو. ومع استمرار نموّ مصالح بكين في المنطقة، يجب على واشنطن مراقبة أنشطتها عن كثب. فإقامة منشأة جديدة لجيش التحرير الشعبي تلوح في الأفق، وعلى صانعي السياسات إدراك هذا الاحتمال والاستعداد للغوص في البحار المتغيّرة لديناميكيات القوّة الإقليمية.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا