لم تكن مجزرة مدينة نابلس التي سقط فيها أحد عشر شهيداً خلال مهاجمة عرين الأسود الأولى، ولن تكون المجزرة الأخيرة التي يرتكبها جيش الاحتلال بحقّ الشعب الفلسطيني، لكنّها كانت صعبة ومريرة لأنّها جاءت بعد ساعات على سحب الطلب الفلسطيني بإدانة الاستيطان من مجلس الأمن، وعقب قرار حكومة نتانياهو إطلاق دفعة كبيرة من المستوطنات.
تمكّنت واشنطن من خداع القيادة الفلسطينية والضغط عليها من أجل أن تسحب القرار وأن يُكتفى بصدور بيان رئاسي هزيل من مجلس الأمن يكاد يساوي بين الضحيّة والجلّاد.
اعتبرت مصادر إعلامية أنّه جرى تضليل السلطة الفلسطينية عبر التوصّل إلى تفاهمات بين نتانياهو والسلطة الفلسطينية بوساطة أميركية، مقابل سحب السلطة الفلسطينية لمشروع يدين الاستيطان. وتعهّد نتانياهو وفق هذه التفاهمات لواشنطن بأن لا تقوم الحكومة الإسرائيلية في الأشهر القريبة المقبلة بشرعنة أيّ بؤر استيطانية جديدة، وأن لا تدخل إسرائيل مناطق “أ” التابعة للسلطة الفلسطينية، والمدن الصاخبة مثل جنين ونابلس. إلا أنّ تل أبيب غدرت بالسلطة الفلسطينية، حسب تعبير عضو اللجنة المركزية لحركة فتح عباس زكي، حين اقتحمت حيّ القصبة في نابلس في وضح النهار. وبالطبع خدعت تل أبيب واشنطن، التي تحاول مساعدة تل أبيب.
اعتبرت مصادر إعلامية أنّه جرى تضليل السلطة الفلسطينية عبر التوصّل إلى تفاهمات بين نتانياهو والسلطة الفلسطينية بوساطة أميركية، مقابل سحب السلطة الفلسطينية لمشروع يدين الاستيطان
واشنطن وحكومة الثالوث
صحيح أنّ علاقة واشنطن متوتّرة مع حكومة الثالوث الجديد بسبب السياسات المتطرّفة التي تتّبعها وسعيها إلى تغيير منظومة القضاء الذي يهدّد القيم المشتركة مع الولايات المتحدة، وصحيح أنّ الاستيطان يحرج الولايات المتحدة، لأنّها من جهة ترفض هذا النهج الذي يقضي، كما تقول، على حلّ الدولتين، ويقلب الطاولة على الجميع، لكنّها لا تستطيع بالمقابل التصويت على إدانة إسرائيل في مجلس الأمن وأن تنقلب فجأة على العلاقة الاستراتيجية التاريخية ببين الدولتين، وفي الوقت نفسه لا ترغب في استخدام الفيتو لأنّ هذا يحرجها، وخصوصاً بعد الأزمة الأوكرانية. وللخروج من هذا التناقض الغريب، ضغطت على القيادة الفلسطينية لسحب مشروع القرار ومساعدة إسرائيل.
وكالعادة كان نتانياهو “الساحر” أكثر دهاء من الإدارة الأميركية والفلسطينيين، وتمكّن من التلاعب بالاثنين معاً. فحسب المحلّل الفلسطيني أكرم عطا الله: “نتانياهو سياسي محتال وخبير في لعبة البقاء تمكّن من قلب الطاولة على رأس الفلسطينيين والإدارة الأميركية عبر الذهاب إلى صناعة معركة أمنيّة، هي “مجزرة نابلس”، يغطّي غبارها على كلّ الأحداث، وتبدأ في نابلس وتنتهي بصواريخ غزّة، فتستنفر مساعي التهدئة، فتتكرّم إسرائيل بردّ محدود إكراماً للوسطاء. وهكذا يكون موضوع الاستيطان قد اختفى تماماً، إذ لم يعد على الأجندة سوى الحيلولة دون نشوب حرب، ويكون نتانياهو قد خدع واشنطن والفلسطينيين الذين خسروا مجلس الأمن وخسروا الميدان”.
من جهته، رأى المحلّل الإسرائيلي، عاموس هارئيل، أنّ “علامات استفهام ثقيلة ترتسم حول قرار قيادة الجيش في المنطقة الوسطى إرسال قوات كبيرة في وضح النهار إلى قلب القصبة في مدينة نابلس بهدف اعتقال ثلاثة مطلوبين فلسطينيين مسلّحين، الذي يعني سقوط عدد كبير من القتلى. وتزداد علامات الاستفهام على خلفيّة الصورة الشاملة في تل أبيب التي لا تتعلّق فقط بالدمج بين التشريع الذي يدفع قدماً نحو انقلاب نظامي وبين الفترة المتوتّرة أصلاً في المناطق المحتلّة. في المحصّلة انتهت الحادثة بقتل 11 فلسطينياً، بينهم ثلاثة مواطنين كبار في السنّ يبدو أنّه لم تكن لهم أيّ علاقة بالخليّة المسلّحة، وهذا يمكن أن يشجّع على المزيد من عمليات الانتقام من الضفّة، وربّما أيضاً إطلاق الصواريخ من قطاع غزّة”.
تمكّنت واشنطن من خداع القيادة الفلسطينية والضغط عليها من أجل أن تسحب القرار وأن يُكتفى بصدور بيان رئاسي هزيل من مجلس الأمن يكاد يساوي بين الضحيّة والجلّاد
القمّة الأمنية
قال موقع “Axios” الأميركي إنّ السلطة الفلسطينية هدَّدت بالانسحاب من “قمّة أمنيّة” من المقرّر عقدها مع الولايات المتحدة وإسرائيل والأردن ومصر بعد مجزرة نابلس، وقال الموقع إنّ القمّة الأمنيّة تهدف إلى إضفاء الطابع الرسمي على التفاهمات التي أُعلن التوصّل إليها بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وأوضحت مصادر إعلامية أنّ السلطة الفلسطينية اشترطت لحضور الاجتماع الحصولَ على تأكيدات وضمانات من الولايات المتحدة وإسرائيل بإيقاف جميع الإجراءات الأحاديّة الجانب من إسرائيل واقتحام المدن والمخيّمات وقتل الفلسطينيين.
نتانياهو يقفل الحساب
لم يأبه نتانياهو للغضب الفلسطيني الرسمي، أو لما وصفه الفلسطينيون غدراً إسرائيلياً، أو للإدانة الدولية، بل على العكس تفاخر بمقتل عشرة فلسطينيين في نابلس، وتعهّد بقتل مزيد من الفلسطينيين، وقال نتانياهو في مستهلّ جلسة حكومته: “دعوني أشيد بقوات المخابرات والاستخبارات العسكرية على المعلومات الاستخبارية الدقيقة، ونقولها دائماً، سنغلق الحساب مع كلّ من يمسّ بمواطني إسرائيل وجنود الجيش. وهذا ما قمنا بفعله هذه المرّة أيضاً”. فيما قال وزير جيشه يوآف غالانت: “سيتصرّف الجيش الإسرائيلي وقوات الأمن بقسوة ضدّ المسلّحين ومرسليهم. هكذا كان الحال قبل بضعة أسابيع في جنين وأريحا، وهذا كان الحال أيضاً في نابلس”.
تقدّر المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية أنّ حركة حماس لا ترغب بالتصعيد، ولا بإطلاق الصواريخ من غزة، حتى ردّاً على مجزرة بحجم مجزرة نابلس، إلا بشكل رمزي ومدروس. وحسب تقديرات الجهاز الأمني، تستغلّ حركة حماس الهدوء لتقوية نفسها عسكرياً، ولا سيما أنّها حين ترى ذروة ألسنة اللهب في القدس والضفة الغربية، فإنّ مصلحتها تقتضي الحفاظ على الهدوء في القطاع.
إقرأ أيضاً: مستوطنة مقابل كلّ قتيل إسرائيليّ.. وانتفاضة ثالثة
غير أنّ قوات جيش الاحتلال والمنظومة الأمنيّة الإسرائيلية في حالة تأهّب قصوى في القدس المحتلّة وباقي أنحاء الضفّة الغربية. وأشارت صحيفة “إسرائيل هيوم” إلى أنّ الاحتلال يتحسّب بشكل أساس من ردّ عسكري لمجموعة “عرين الأسود”، ولذلك نصبت الشرطة الإسرائيلية حواجز في القدس، وخصوصاً في الأحياء المتاخمة للشطر الغربي منها، ونصبت حواجز تفتيش عند مداخل البلدات القروية التي جرى وضعها تحت نفوذ بلدية الاحتلال بعد حرب عام 1987، مثل العيسوية والطور وجبل المكبر.