خطف الرفاعي وممارسات القاضية عون وجهان لدولة واحدة

مدة القراءة 5 د

لا يقتصر تصريف الأعمال على التوصيف الدستوري لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، فالجمهورية اللبنانية برمّتها تصرّف الأعمال بسبب ما تقتضيه حالة الاستسلام في المؤسسات واستكانة الطبقة السياسية للوضع القائم. المؤسسة التشريعية، وهي المؤسّسة الأمّ في نظامنا البرلماني الديمقراطي، كانت السبّاقة إلى تعليق أعمالها والتخلّي عن دورها في الدفع نحو تشكيل حكومة جديدة، قبل أن تواجه فشلها المتوقّع في تحمّل مسؤوليّاتها وانتخاب رئيس جديد للجمهورية. فشل المؤسّسة التشريعية رافقه افتقاد صقور السياسيين هذه المرّة جاذبيّتهم المعهودة في استدراج الخارج الإقليمي والدولي إلى معاركهم المحليّة وإحراجه لابتكار تسوية يستظلّونها وتحافظ على مواقعهم ويلقون تبعاتها على التوازنات الدولية التي لا يمكن تجاوزها. وأمام هذا الفشل المزدوج سلكت المواجهة المستحيلة بين خصوم السياسة سبيل التغوّل على صلاحيات حكومة تصريف الأعمال، فأصبحت دعوتها إلى الانعقاد، كما جدول أعمالها، مقيّدين باسترضاء الجميع وأخذ موافقتهم، على الرغم من كون ذلك واجباً دستورياً ملتصقاً برئيس الحكومة مع حقّ رئيس الجمهورية الحصري بالاطّلاع على مضمون جدول الأعمال وعلى المواضيع الطارئة التي ستُبحث.

 

فقدان الانتظام العامّ

الانتظام العامّ، الذي يردّد رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي التمسّك به، لم يعد سبيله الإجراءات الإدارية والقانونية المستمدّة من مهامّ المؤسّسات التي تجيزها المراسيم التنظيمية، وهذا ما أثبته عجز التفتيش القضائي وعدم فعّالية القرارات التي اتّخذها مدّعي عام التمييز في وقف استدعاءات القاضية غادة عون بكفّ يدها والطلب إلى السلطات والضابطة العدلية عدم التجاوب معها وعدم تنفيذ قراراتها. ما كان يمكن أن تجنيه القاضية عون لم يكن ليختلف أو ليتفوّق على إنجازاتها من الاقتحامات المتكرّرة لشركة مكتّف للصيرفة مقارنة بالتبعات السلبية المترتّبة على مزيد من المغامرات الهوليوودية بحقّ القطاع المصرفي في ظلّ الوضع الاقتصادي الحرج. هذا ما استدعى لجوء الرئيس ميقاتي إلى معالجة الموضوع بزجّ وزير الداخلية في العراك القضائي مع المصارف لاستعمال سلطاته الإدارية ووصايته على الأجهزة الأمنيّة لكبح جماح قاضية العهد البائد. وأمام كلّ ما يُساق عمّا جرى وعن تعارضه مع استقلالية المؤسّسات التي يكرّسها الدستور لا يمكن سوى التساؤل عن معيار المؤسساتيّة الباقية لدى السلطة القضائية بعد عجزها عن إلزام القاضية عون باحترام قراراتها والعجز عن محاسبتها. والتساؤل مطروح داخل كلّ المؤسّسات التي تخضع قراراتها وإجراءاتها لنظام أبويّ لا يمتّ للقانون بصلة قبل البحث في العلاقات بين المؤسّسات وحدود صلاحيّاتها.

إنّ كلّ ما يجري في القضاء والأمن وسواهما هو نتاج موضوعي لغياب الحوْكمة في إدارة الدولة، وهذا ما يستدعي بشكل ملحّ إعادة تعريف ماهيّة ووظائف المكوّنات الرسمية كافّة التي يصطلح اللبنانيون تمويهاً على تسميتها بالمؤسسات

المنطق المتفلّت واحد

لا يختلف المنطق المتفلّت في بعض القضاء عمّا حصل في طرابلس مطلع الأسبوع الجاري المتمثّل في حادثة خطف الشيخ أحمد شعيب الرفاعي من قِبل مسلّحين مجهولي الهويّة من دون توافر أيّة معلومات عن مصيره لغاية الآن. الحادثة بحدّ ذاتها قد تحصل في دول أكثر استقراراً من لبنان، لكنّ اكتفاء الأجهزة الأمنية بالقول إنّ “الشيخ الرفاعي ليس موقوفاً لدينا” على الرغم من وجود معطيات حسّيّة وتفاصيل وفّرتها كاميرات في موقع الحادثة يحيلنا إلى اعتراف ضمني بوجود أجهزة مسلّحة موازية للأجهزة الأمنيّة الرسمية، كما يحيلنا إلى أسلوب التوقيفات المعتمَد من قِبل بعض الأجهزة الأمنيّة والذي لا يراعي ما نصّ عليه القانون، ولا سيّما المادّة 47 من أصول المحاكمات الجزائية لجهة إلزامية صدور أمر من القضاء واحترام حقوق الموقوف لجهة معرفة مكانه وحقّه بالاتصال بذويه. هذا ما سمح للعصابات المسلّحة بانتحال صفة الأجهزة الأمنية، وهو ما أتاح لبعض الأجهزة الأمنيّة أن تتجاوز القانون.

لقد أدّى الفشل في استدراج الخارج وربطه ترغيباً أو قسراً بالداخل اللبناني وتعذُّر دفعه إلى تبنّي خيارات سياسية إلى انحدار الطموحات السياسية نحو منازلة جديدة أدواتها الحفاظ على المكتسبات في مواقع موظّفي الفئة الأولى تجديداً أو تمديداً تحت شعار “عدم حصول الفراغ في المؤسّسات”. فهل تشكّل حادثة خطف الشيخ الرفاعي نموذجاً جديداً للمنازلات المفتوحة ومحاولة لاختبار قدرة العامل الأمنيّ على اختراق الانسداد السياسي؟

إقرأ أيضاً: الشيخ الرفاعي واللغز الكبير: ماذا قال شاهد العيان؟

إنّ كلّ ما يجري في القضاء والأمن وسواهما هو نتاج موضوعي لغياب الحوْكمة في إدارة الدولة، وهذا ما يستدعي بشكل ملحّ إعادة تعريف ماهيّة ووظائف المكوّنات الرسمية كافّة التي يصطلح اللبنانيون تمويهاً على تسميتها بالمؤسسات، وتقويم أدائها لتشكّل نواة لدولة حقيقية ومصدر اطمئنان للّبنانيين. فهل يمكن تحقيق ذلك في غياب قضاء حقيقي وحوْكمة رشيدة تفرضها معايير قياسية في الشفافية وقدرة على المحاسبة؟ إنّ ترميم الوضع القائم بأسلوب التوافقات المعروف لم يعد ناجعاً، فأيّ دولة تلك التي تُبنى تحت مسمّى تجنّب الفراغ في هذا الموقع أو ذاك؟ وهل يستقيم جزء من دولة بالتوازي مع تمرّد أجزاء أخرى؟ وهل يستوجب ما جرى في الشمال إجراءً حكومياً يحاكي ما اتُّخذ بحقّ القاضية غادة عون، ولا سيّما أنّ المؤسسات الأمنية والعسكرية خاضعة لمجلس الوزراء بحكم المادة 65 من الدستور؟

 

* مدير المنتدى الإقليمي للاستشارات والدراسات

مواضيع ذات صلة

إيران “تصدّر” أوهامها إلى الحزب..

ما يدعو إلى القلق والخوف على لبنان قول نعيم قاسم الأمين العامّ الجديد لـ”الحزب” في خطابه الأخير إنّ “خسارة طريق الإمداد عبر سوريا مجرّد تفصيل”….

“العقبة” تكشف عقبات المشهد السّوريّ

يليق بمدينة العقبة الأردنية الواقعة على ساحل البحر الأحمر والمشهود لها بخصوصيّاتها في استضافة وتنظيم العشرات من المؤتمرات الإقليمية والدولية ذات الطابع السياسي والأمنيّ والاقتصادي،…

سرديّة جديدة: سلاح “الحزب” للحماية من مخالفات السّير؟

.. “عفكرة توقيف سحر غدار هو عيّنة كتير صغيرة، شو رح يصير فينا كشيعة إذا سلّمنا سلاحنا. طول ما سلاحك معك هو الوحيد يلّي بيحميك….

نخبة إسرائيل: خطاب نعيم قاسم “خالٍ من الاستراتيجية”

منذ تعيينه أميناً عامّاً لـ”الحزب” بعد اغتيال سلفه نصرالله، وخليفته السيّد هاشم صفيّ الدين، سيطر الإرباك على خطب الشيخ نعيم قاسم، فتارة حاول تبرير حرب…