التفاؤل العراقيّ قد يكون في مكانه!

مدة القراءة 6 د

كانت الكلمة التي ألقاها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في مؤتمر ميونيخ للأمن في غاية التفصيل. كانت، نظرياً، مقاربة علميّة وواقعيّة وموضوعيّة للوضع العراقي. تعكس الكلمة وجود شخص في موقع المسؤولية في بغداد يعرف المنطقة والعالم، ويعرف خصوصاً أهمّيّة العراق وما آل إليه. يؤكّد ذلك أنّ السوداني بدأ كلمته بالإشارة إلى أنّ العراق “لم يعد يشكّل مشكلة أمنيّة أو سياسية أو جزءاً من مشاكل مكافحة الإرهاب، بل هو مفتاح للحلّ في المنطقة. العراق حجر الزاوية لنظام إقليمي مستقرّ مبنيّ على التعايش والتعاون والشراكات الاقتصادية التي تخدم المنطقة”.

لم يمنعه ذلك من الاعتراف بأنّ “الفساد زعزع ثقة المجتمع بالنظام السياسي في العراق، وهو يهدّد كلّ برامج التنمية والإعمار وخططهما”.

لا شكّ أنّ كلمة رئيس الحكومة العراقية، في المؤتمر المهمّ الذي استضافته ميونيخ، تضمّنت كمّيّة لا بأس بها من التفاؤل، خصوصاً أنّ العراق بات بلداً في غاية التعقيد. لكن تبقى لافتة تلك الإحاطة الشاملة بما يواجه العالم من جهة، والتحدّيات الخاصّة بالعراق من جهة أخرى. إنّها تحدّيات مرتبطة بمكافحة الفقر والفساد وإجراء الإصلاحات الاقتصادية “التي تأخذ حيّزاً كبيراً من جهدنا لتنويع مصادر الدخل واستثمار الموارد”، على حدّ تعبير رئيس الحكومة العراقيّة.

يُحتمل أن تخدم التطوّرات الإقليمية والعالميّة محمد شياع السوداني من حيث يدري أو لا يدري… والأرجح أنّه يدري

في النهاية، هناك فارق بين الكلام والنتائج. المهمّ أن تكون لدى رئيس الحكومة العراقية القدرة على ترجمة كلامه على أرض الواقع، خصوصاً عندما يقول: “أعمل شخصيّاً على وضع إصلاحات هيكلية للاقتصاد وإصلاحات جذرية للنظام المالي والمصرفي ليتماشى مع النظام العالمي”. هل مسموح بأن يكون في العراق نظام مالي يتماشى مع النظام العالمي في وقت تعمل إيران على جعل العراق مصدراً لتزويدها بالدولارات التي تموّل بها مشروعها التوسّعي وميليشياته المذهبيّة في المنطقة؟

يبقى دائماً فارقٌ بين كلام السوداني والواقع العراقي الأليم، لكنّ ما يدعو إلى النظر بنوع من الإيجابيّة إلى ما يقوله محمّد شياع سوداني هو ذلك التعاطي الواقعي مع الوضع العراقي. لم يغِب عن باله أنّ “العراق يعتبر التغيّرات المناخية تهديداً وجودياً له”. ليس أمراً عاديّاً تطرُّق رئيس الحكومة العراقيّة إلى التغيّرات المناخية من زاوية عمليّة بعيدة كلّ البعد عن الأجواء الخرافيّة التي صارت تهيمن على المجتمع العراقي في ضوء التأثير الكبير للأفكار الظلاميّة في المجتمع.

ليس ما يمنع الاعتراف بأنّ رئيس الحكومة العراقيّة قال في ميونيخ كلاماً كبيراً لا يجرؤ كثيرون غيره على قوله. قال مثلاً إنّ “العراق انتصر على الإرهاب، وقوّاتنا الأمنيّة على درجة عالية من الكفاءة للمحافظة على الأمن. وموقفنا واضح وصريح: إنّنا لا نحتاج إلى قوات قتالية من التحالف الدولي، لكنّنا نحتاج إلى الاستشارة والتدريب والتبادل الأمنيّ”. هذا يعني بكلّ بساطة غياب عقدة وجود مستشارين أميركيين أو غربيين في العراق مع توضيح أنّنا “نعمل على تحديد أعداد مستشاري التحالف الدولي في العراق بشكل يحافظ على سيادة بلدنا، وهي رؤية تحظى بقبول شعبي وسياسي”. لم يخفِ أنّ “الوضع الأمنيّ في سوريا يمثّل تحدّياً للعراق بوجود مخيّم الهول والسجون التي تضمّ عدداً كبيراً من الإرهابيين”.

أظهر السوداني وعياً للوضع الداخلي العراقي، بما في ذلك وضع المرأة العراقية وضرورة توفير “الشعور بالاطمئنان” للأقلّيات. أشار أيضاً إلى أنّنا “قطعنا شوطاً مهمّاً في تذليل العقبات بين بغداد وأربيل (الأكراد)، وسننهي هذا العام بتشريع قانون النفط والغاز”.

أظهر السوداني وعياً للوضع الداخلي العراقي، بما في ذلك وضع المرأة العراقية وضرورة توفير “الشعور بالاطمئنان” للأقلّيات

لم يذهب رئيس الوزراء العراقي إلى لعبة تدوير الزوايا عندما تطرّق إلى العلاقة بالولايات المتحدة و”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. قال: “الولايات المتحدة شريك استراتيجي للعراق من خلال اتفاقية الإطار وليست شريكاً أمنيّاً فقط. إيران جار تربطنا به علاقات تاريخية في مختلف الصعد، وإقامة العراق علاقة متوازنة مع أميركا وإيران أمر مقبول وفق قاعدة المصالح الوطنية للعراق”.

لم يترك السوداني مجالاً لم يتطرّق إليه، بما في ذلك وجود “لجان تعمل على مشاريع اقتصادية تمثّل شراكات منتجة بين العراق والأشقّاء في المنطقة وباقي العالم. والعراق منفتح على كلّ الدول في مجال الشراكات الاقتصادية”. أشار أيضاً إلى أنّ “كبريات الشركات العالمية في كلّ القطاعات تقوم بعمليات استثمار في العراق، ولدينا قانون للاستثمار هو الأفضل في المنطقة. وأكّدت على الاستثمار في الغاز الذي سيمدّ سوق الطاقة في العالم”.

يظلّ السؤال: ما العمل بأفضل قانون للاستثمار في المنطقة من دون بيئة آمنة تسمح بالاستثمار وتسمح للمستثمر بخلق فرص عمل من جهة، وبسحب أرباحه والاطمئنان إلى أن لا ميليشيات مسلّحة ستضغط عليه من جهة أخرى؟ ما العمل بقطاع عامّ يضمّ موظّفين وهميّين يشكّلون عبئاً على الدولة؟ هؤلاء الموظّفون الوهميون الذين يسمّيهم العراقيون بـ”الفضائيين” موجودون في كلّ القطاعات، من الجيش إلى “الحشد الشعبي” المماثل لتجربة “الحرس الثوري”.

من إيجابيّات كلمة رئيس الوزراء العراقي في ميونيخ، حيث التقى وزير الخارجيّة الأميركي أنتوني بلينكن، قوله إنّ “مساعينا مستمرّة للتقريب بين السعودية وإيران، وسنعاود قريباً اللقاءات التي توقّفت بين الطرفين”. يشير ذلك إلى أنّ العراق ما زال، كما كان إبّان حكومة مصطفى الكاظمي، مكاناً لتبادل وجهات النظر بين الرياض وطهران.

إقرا أيضاً: نهب العراق وسوريا ولبنان

شخّص محمّد شياع السوداني مكامن المرض العراقي، وشخّص الحلول والمخارج. هل تخدم التوازنات الإقليميّة الجديدة العراق في سعيه إلى أن يكون نفسه وأن يكون قادراً على استعادة توازنه الداخلي ودوره في المنطقة؟

سيتوقّف الكثير، بل سيتوقّف كلّ شيء، على مصير المشروع التوسّعي الإيراني الذي بدأ يترنّح في ظلّ الوضع الداخلي في “الجمهوريّة الإسلاميّة” نفسها من جهة، وبدء الغرب استيعاب مدى التورّط الإيراني في الحرب الأوكرانيّة، إلى جانب فلاديمير بوتين، من جهة أخرى.

يُحتمل أن تخدم التطوّرات الإقليمية والعالميّة محمد شياع السوداني من حيث يدري أو لا يدري… والأرجح أنّه يدري. قد يكون تفاؤله في محلّه وقد لا يكون!

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@

مواضيع ذات صلة

سيادة الرئيس.. نتمنى أن نصدقك

“لو كنتُ رئيساً للولايات المتحدة، لما اندلعت حرب أوكرانيا وغزة” هذا صدر البيت.. أما عجزه، فسوف يوقف الفوضى في الشرق الأوسط، وسيمنع اندلاع حرب عالمية…

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….