بعد جولة شملت مصر وإسرائيل ورام الله فى الضفة الغربية المحتلّة في الفترة من 29 إلى 31 من كانون الثاني الماضي، ادّعى وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بعد محادثات مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، أنّ واشنطن تواصل العمل من أجل حلّ الدولتين، وتعارض أيّ إجراء من قبل أيٍّ من الجانبين (الفلسطيني والإسرائيلي) يزيد من صعوبة الوصول إلى هذا الهدف، ويجعله أبعد منالاً. وهذا يشمل عدم التوسّع الاستيطاني وعدم إضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية وعلى عمليات الهدم والإخلاء وتعطيل الوضع التاريخي الراهن للأماكن المقدّسة.
أميركا تشيع الوهم
لكنّ مستشاراً سابقاً للاتحاد الأوروبي في القضايا السياسية والأمنيّة الإقليمية اعتبر في تقويم يتّصف بالموضوعي للدبلوماسية الأميركية في منطقة الشرق الاوسط أنّ “أحد أهدافها الرئيسية الحفاظ على وهم التقدّم الدبلوماسي والالتزام الأميركي، فضلاً عن زيادة غير عاديّة في المستعمرات والمستوطنين”. وقد بلغ عدد المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية أكثر من نصف مليون، استناداً إلى تقرير رسمي نشرته “إحصاءات السكّان اليهود في الضفّة الغربية” في كانون الثاني 2023.
كان “موت الدبلوماسية الأميركية في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”، العنوان الذي اختاره جيفري أرونسون، الذي يكتب عن الشؤون الإسرائيلية الفلسطينية منذ عام 1976 وكان المحرّر السابق لتقرير الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلّة حتى حزيران 2014، لمقال نُشر في مجلّة ناشيونال إنترست الأميركية التي تصدر من واشنطن.
اعتبر أرونسون أنّ زيارة بلينكن لم يكن لها أيّ علاقة بالتطوّر الأكثر أهميّة الذي حدث خلال رحلته، وأنّ اقتراحاته المتحفّظة حول نزع فتيل الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين عكست مدى تقلّص البصمة الدبلوماسية الأميركية
الاستيطان يتوسّع وواشنطن تتجاهل
اعتبر أرونسون أنّ زيارة بلينكن لم يكن لها أيّ علاقة بالتطوّر الأكثر أهميّة الذي حدث خلال رحلته، وأنّ اقتراحاته المتحفّظة حول نزع فتيل الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين عكست مدى تقلّص البصمة الدبلوماسية الأميركية على ما كان لسنوات عدّة عنصراً رئيسياً في سياسة الولايات المتحدة في المنطقة. ورأى أنّه كان من الأجدر الانتباه إلى أمر أكثر أهميّة: تقرير السجلّ السكّاني لوزارة الداخلية الإسرائيلية حول الزيادة السكّانية السنوية للمستوطنين:
– أكثر من 200 مستوطنة في الضفّة الغربية ازداد سكّانها أكثر من 500 ألف.
– أكثر من 200 ألف زيادة سكانية في مستوطنات القدس الشرقية التي تمّ ضمّها.
يرسم هذا التقرير، حسب أرونسون، مشروعاً استيطانياً ينمو باطّراد في جميع أنحاء الضفة الغربية وفي حزام المناطق الاستيطانية الكبيرة حول القدس الكبرى، ويشمل الزيادة السكّانية في المستوطنات في وادي الأردن وفي مرتفعات يهودا والسامرة. وهذا عدا عن الزيادة المطّردة في عدد سكّان ما يسمّى بالمستوطنات غير القانونية والبؤر الاستيطانية التي تمّ إنشاؤها في البداية بلا موافقة حكومية رسمية على مدار الـ25 سنة الماضية.
قال أرونسون، الذي عمل في معهد الشرق الأوسط وشغل منصب مدير مؤسّسة السلام فيه وعمل أيضاً مع الاتحاد الأوروبي والبنك الدولي والعديد من الحكومات الأوروبية في القضايا المتعلّقة بالأمن الإسرائيلي والفلسطيني، إنّه “ليس صدفة أن تتعهّد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بتفكيك هذه البؤر الاستيطانية بلا أيّ عمل ملموس، بعدما توقّفت الإدارات الأميركية عن مطالبتها بذلك”. وأضاف: “لأكثر من نصف قرن كان عدد سكّان المستوطنات الإسرائيلية يزداد دوريّاً. وليس من مقياس للصراع المستمرّ بين الإسرائيليين والفلسطينيين حول السيطرة والسيادة، أفضل من توسّع إسرائيل الاستيطاني ومخاطره المصاحبة، ليس على الفلسطينيين فقط، بل وعلى صحّة الديمقراطية في إسرائيل. وفشلت الدبلوماسية التي ترعاها الولايات المتحدة في الحدّ من تفاقم الاستيطان. فهي سلّمت منذ فترة طويلة، بما في ذلك الإدارة الحالية، بزيادة عدد المستوطنات الإسرائيلية مع غياب أيّ أفق دبلوماسي لإنشاء دولة فلسطينية في الضفّة الغربية وقطاع غزّة”. وأشار إلى أنّ “دبلوماسيّين محنّكين ابتدعوا سلسلة من الحلول السريعة للحفاظ على وهم التقدّم الدبلوماسي والالتزام الأميركي. وكان أكثر ما فعلته هذه الجهود هو القبول باستمرار الاحتلال بدلاً من معالجة القضية التي جوهرها سعي إسرائيل الطويل الأمد إلى إيجاد حقائق على الأرض”.
ختم أرونسون بالقول إنّ “الجهود الأميركية تتركّز الآن على خطّة أمنية أخرى في الضفة الغربية تهدف إلى تعزيز حشد الدعم الشعبي الفلسطيني للمؤسّسات الأمنية التي فشلت فشلاً ذريعاً في حماية الفلسطينيين وإرثهم السياسي”.
لم تعد الولايات المتحدة قادرة أو مستعدّة لأن تكون حصن مفاوضات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية، فقد حان الوقت لقائد جديد أن يتولّى زمام الأمور ويكون لديه التاريخ والقوة الدبلوماسية لتمهيد الطريق لمفاوضات جديدة
الاتّحاد الأوروبيّ إلى القيادة
إذا لم تعد الولايات المتحدة قادرة أو مستعدّة لأن تكون حصن مفاوضات السلام الإسرائيلية – الفلسطينية، فقد حان الوقت لقائد جديد أن يتولّى زمام الأمور ويكون لديه التاريخ والقوة الدبلوماسية لتمهيد الطريق لمفاوضات جديدة.
في هذا السياق كتب الباحث في السياسة الدفاعية في مركز التشغيل البينيّ للجيش الأوروبي في بروكسل جونا بروديي، أنّ “من بين شركاء أميركا في اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط، الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، يُعتبر الاتحاد الأوروبي الأكثر ملاءمة بشكل طبيعي ليحلّ محلّ الولايات المتحدة”. وأوضح بروديي في مقال له في موقع “مودرن بوليسي” أنّ الأمم المتحدة “غير قادرة على تحقيق أيّ تقدّم على الجبهة الإسرائيلية – الفلسطينية بسبب استخدام الولايات المتحدة حقّ النقض ضدّ أيّ قرار تعتبره غير مؤاتٍ لحليفتها إسرائيل. منذ غزوها أوكرانيا أصبحت روسيا دولة منبوذة في المجتمع الدولي وتفتقر إلى الشرعية لحلّ نزاع كبير مثل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. أمّا الاتّحاد الأوروبي فلديه مشاركة دبلوماسية مهمّة مع إسرائيل وفلسطين، وقد خصّص وقتاً ومصادر كبيرة لمعالجة الصراع، ويتمتّع بالشرعية اللازمة للعمل مفاوضاً دوليّاً. وذلك وفق الخطوات التالية:
– أوّلاً، وضع خطة سلام للحرب في أوكرانيا والصراع بين إسرائيل وفلسطين. فتاريخياً نجحت المجموعة الأوروبية في التوفيق بين إسرائيل والفلسطينيين. فخلال الحرب الباردة، ومع انشغالها بإدارة العلاقات مع الكتلة الشيوعية، نسّقت جهودها لإصدار وثيقة شومان لعام 1971 وإعلان لندن عام 1977 وإعلان البندقية لعام 1980. ودعت إلى الانسحاب الإسرائيلي من جميع الأراضي المحتلّة، وإقامة وطن فلسطيني، وإرساء معايير ملموسة لحلّ الخلافات الإقليمية. في التسعينيات، ومع حرب كوسوفو، نجحت في إصدار إعلان برلين في آذار 1999 الذي أكّد مجدّداً التزام المنظمة الاعتراف بدولة فلسطين في الوقت المناسب.
– ثانياً، إقامة روابط أعمق مع المجتمع المدني في إسرائيل وفلسطين. إذ يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين الوثوق بمن يقود جهود المصالحة. وسيساعد الانخراط المباشر مع المجتمع المدني وزيادة الثقة في إيجاد نهج جديد لحلّ الصراع وتمكين الاتحاد الأوروبي من فهم احتياجات الأفراد في الأجلين القصير والطويل.
أقرأ أيضاً: إسرائيل تدخل التاريخ النفطي من كاريش
– ثالثاً، الاعتماد على شركائه الإقليميين لتعزيز المصالحة بين حركة حماس والسلطة الفلسطينية. فأيّ مسار يؤدّي إلى قيام دولة فلسطينية يجب أن يُعيد توحيد الفلسطينيين. ومن شأن ذلك أن يزيل شرطاً مسبقاً لإنشاء إطار سلام إسرائيلي – فلسطيني جديد.
هذه الخطوات ضرورية، وتمكِّن الاتحاد الأوروبي من المساعدة في وضع الأسس الأوّلية لخطة سلام جديدة. لقد طالت حلقة العنف وإعلانات وقف إطلاق النار بين الجانبين بما فيه الكفاية، وحان الوقت لكي يستخدم الاتحاد الأوروبي عضلاته الدبلوماسية وأن يكون المفاوض الرئيسي في عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية.
*تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى وجود نحو 400 ألف مستوطن في الضفّة الغربية، ونحو 218 ألفاً في القدس الشرقية. بينما يكشف التقرير السنوي لهيئة مقاومة الجدار والاستيطان (وهي هيئة فلسطينية شبه رسمية) أنّ عدد المستوطنين في الضفة الغربية، بما فيها شرق القدس، بلغ 726 ألفاً و427 مستوطناً موزّعين على 176 مستوطنة، وعلى 186 بؤرة استيطانية (نواة مستوطنة) أُقيمت 10 منها خلال عام 2022. وهذا إضافة إلى بؤرتين تمّت شرعنتهما. وصادقت حكومة الاحتلال خلال 2022 على 83 مخطّطاً لبناء 8,288 وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية، و2,635 وحدة في القدس المحتلّة. وصادرت سلطات الاحتلال قرابة 26 ألفاً و500 دونم تحت مسمّيات مختلفة، مثل إعلان محميّات طبيعية، واستملاك ووضع يد، واعتبارها “أراضي دولة”.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا