ذات يوم، أشاع حزب الله وإعلامه أنّه لولا سلاح الحزب، و”مقاومته”، لَما نظر أحد إلينا في هذا العالم.
يذكّر هذا القول بحكاية الصيّاد الذي عرض عليه أحد رجال الأعمال أن يشتري مركباً بالتقسيط ليزيد من كميّة السمك الذي يصطاده، ثمّ يوظّف عمّالاً، ويزيد عدد المراكب خلال 10 أو 20 عاماً، حتّى يصل إلى الثراء الذي يسمح له بأن يترك العالم ويصطاد السمك براحة بال ويقضي أطول وقت ممكن في إجازات قرب كوخ منسيّ. فأجابه الصيّاد: “لمَ كلّ هذا التعب… هذه حياتي، وهذا ما أريد أن أفعله”.
يحاول حزب الله أن يقنعنا باستمرار بأنّ توافد الرسُل الدوليّين إلى بلادنا، أصله وسببه سلاحه، الذي إذا تخلّى عنه سنصير في العراء ولن يسأل أحدٌ عنّا أو يطلب عداوتنا أو صداقتنا.
تجيب حكاية أخرى على رواية الحزب هذه، وهي أنّ كلّ مآسينا تنبع من هذا السلاح، منذ تحرير جنوب لبنان في عام 2000، واختراع حكاية مزارع شبعا، التي رفض حلف “الممانعة” ترسيم حدودها لإبقائها “مسمار جحا” في المواجهة مع إسرائيل.
يحاول حزب الله أن يقنعنا باستمرار بأنّ توافد الرسُل الدوليّين إلى بلادنا، أصله وسببه سلاحه، الذي إذا تخلّى عنه سنصير في العراء ولن يسأل أحدٌ عنّا أو يطلب عداوتنا أو صداقتنا
الكنز… والأزمة
الحزب يريدنا أن نقتنع بأنّ سلاحه هو كنزنا، الذي يدافع عنّا، والذي به نفاوض الغرب وأميركا، والذين يقفون في الجهة المقابلة يجهدون لإفهامه أنّ السلاح، الذي كان “يقاوم” إسرائيل، كان يجب أن يعود إلى حضن الدولة بعد انتهاء صلاحيّة شرعيّته الوطنية في عام 2000، وأنّ المشروع الذي حمله هذا السلاح، منذ محاولة اغتيال مروان حمادة (2004) واغتيال رفيق الحريري (2005)، مرّ بمحطّات كان السلاح خلالها في موقع الهجوم وليس الدفاع، على ما تقول حكاية “الكنز”.
وبالتالي، فإنّ حكاية “الأزمة” تصلح لتوصيف تورّط الحزب، كسلاح وليس كقاعدة شعبية شيعية، أو كأكثرية وطنية، في حروب ومواجهات كلّها ترتبط جذورها برغبة حاملي السلاح في توسيع أدوارهم، بدءاً من 2005 وما تلاه من عنف وتفجيرات، وصولاً إلى 7 أيّار 2008، الذي اعتبره الحزب “يوماً مجيداً من أيام المقاومة”، وهو يوم اجتياح بيروت والجبل بهذا السلاح، وصولاً إلى استخدام هذا السلاح وبيئته الحاضنة في حروب سوريا واليمن والعراق، وتورّط جهازه الأمنيّ في دول عربية وأوروبية وغربية.
2019.. والجوع والحصار
قبل الجوع كانت حكاية “الكنز” تجد لها أنصاراً يميلون إلى تصديقها، من خارج بيئات الأيديولوجية، لكن بعد ثورة 17 تشرين الأوّل 2019 تبيّن أنّ سلاح حزب الله وقف عاجزاً أمام الحصار الماليّ، وتبيّن أنّ الصواريخ لم تحمِ ودائع الشيعة ولا ودائع اللبنانيين، وأنّ الودائع والقدرة الشرائية والمصارف والمستشفى والجامعة والمدرسة، كلّها سقطت بالحصار الماليّ الذي يريد “ترويض” هذا السلاح، ليتوقّف عن قتال العرب داخل بيوتهم وضرب أمنهم القومي، وليس اعتراضاً على 40 عاماً من قتال إسرائيل.
بعد الجوع بات اللبنانيون يميلون إلى تصديق أنّ هذا السلاح جرّ عليهم الحصار الذي يتحدّث عنه حزب الله. وهو صادق ومحقّ في أنّ العرب والأصدقاء يمارسون “ابتعادهم” ويرفضون مساعدتنا، لأنّهم غاضبون من اعتداءات هذا السلاح عليهم. فيما أميركا تطبق على أنفاس نظامنا المصرفي، بحصار غير مسبوق لا تنفع معه صواريخ ولا مسيّرات ولا 100 ألف أو حتّى مليون مقاتل.
الحزب يريدنا أن نقتنع بأنّ سلاحه هو كنزنا، الذي يدافع عنّا، والذي به نفاوض الغرب وأميركا
العرب… وليس إسرائيل
حتّى ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، والتنازل عن الخطّ 29، الذي قدّمه الحزب وبموافقة إيران وسمح لإسرائيل ببدء استخراج النفط والغاز من الحقول الحدودية، فيما دولار لبنان يرتفع من 60 ألفاً إلى ما يقارب 90 ألف ليرة في أسبوع… حتّى هذا التنازل التاريخي لم يستطع أن يكون “حلّاً”، لأنّ المطلوب “انسحاب السلاح من الأمن القومي العربي”، وليس تنازلات شكليّة وحدودية مع إسرائيل.
أزمة العالم مع هذا السلاح لا علاقة لها بإسرائيل. أصلاً هو ملتزم بهدنته معها منذ عام 2006، وأكثر من يحترم القرارات الدولية في هذا المعنى. العالم معنيّ بدور هذا السلاح، أو أدواره، في الدول العربية، من اليمن أوّلاً، إلى سوريا والعراق وغيرهما.
حتّى 7 أيّار والاغتيالات والتفجيرات وقتل الحريري لم تدفع العرب والعالم إلى تنظيم حصار كالذي نعيشه اليوم. اليوم يقف لبنان أمام تساقط وتداعي حكاية أنّ “السلاح هو كنزنا المخفيّ، وسرّ قوّتنا، ولولاه لما توافد مندوبو الدول الكبرى ليحاولوا تسويق تسوية لنا وبنا وعلينا”. ويتبيّن أنّ السلاح ليس إلّا أزمتنا التي يجب أن نداريها، ونعيدها إلى بيتنا، كي لا يلتفت الجيران إليها، وأن يقتنعوا بأنّنا لن نستعملها خارج حدودنا.
التهديد بالحرب… بلا جدوى
وبالتالي فإنّ تهديد الأمين العام لحزب الله إسرائيل بـ”الحرب” إذا لم نستخرج النفط، لن يكون فعّالاً. ولا الحرب إذا وقعت. والأرجح أنّها ستقع، لأنّ العالم لن ينصاع للتهديد، ولأنّ الحرب ستكون انتحاراً لحزب الله ولبنان. ولا يمانع العالم من رؤية خصمٍ منهكٍ ومحاصَرٍ وهو ينتحر وينحر أهله وجيرانه. لكنّه تهديد لن يؤدّي لا هو ولا تنفيذه إلى أيّ مكان لأنّ العالم يريد هذا السلاح أن يعود إلى قواعده، لا أن يستسلم أو أن يتراجع عن طلباته “المحلّية”.
إقرأ أيضاً: نريد رئيساً لا يطعن أولادنا في ظهورهم
إنّهم العرب، وليست إسرائيل.
لنا هنا أن نجيب هذا الحزب وسرديّته تلك، بلغة الصيّاد الذي أغراه رجل الأعمال بأن يشقى عشرين عاماً ليستطيع أن يقضي عطلته في كوخ بعيد، وأن يصطاد السمك، منسيّاً وهادئاً. لنا أن نجيب: “هذا ما نريده أصلاً”. نريد أن نصير مثل سكّان قبرص أو اليونان، جيراننا على الجهة الأخرى من البحر الأبيض المتوسّط، منسيّين، نعمل ونبني ونتنقّل بين أعمال التجارة والسياحة والصناعة والزراعة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mdbarakat@