أقرّ الرئيس الأميركي جو بايدن في خطابه الأخير عن حالة الاتحاد، وبتعليقات ارتجالية من خارج النصّ المكتوب، بأنّ العالم سيحتاج إلى النفط لعقد آخر على الأقلّ. يسلّط هذا الاعتراف الضوء على تحوُّل في أولويّات البيت الأبيض، الذي وضع قضية مكافحة تغيُّر المناخ في صدارة اهتمامات إدارته، ويؤكّد أنّ الخفّة الأيديولوجيّة للديمقراطيين ما لبثت أن رضخت لأولويّة أمن الطاقة، في ضوء ارتفاع أسعار النفط، والتغييرات التي تصيب خارطة تدفّقات النفط الخام العالمية.
الأهمّ من ذلك أنّ هذا التحوّل في موقف بايدن، هو إعلان واضح عن أنّ الخطاب الأيديولوجي للحزب الديمقراطي أدرك مبكراً مدى قصوره، والضرر المتأتّي عن تأطير معركة المناخ في إطار صراع افتراضي بين قوى الشرّ “شركات النفط” وقوى الخير “نشطاء البيئة والحكومات المختطَفة بيوتوبيا اليسار”.
أقرّ الرئيس الأميركي جو بايدن في خطابه الأخير عن حالة الاتحاد، وبتعليقات ارتجالية من خارج النصّ المكتوب، بأنّ العالم سيحتاج إلى النفط لعقد آخر على الأقلّ
“معركة” سلطان الجابر
خاض الأخيرون مثلاً، ولا يزالون، معركة تحريض سياسي على تسمية أبوظبي، رئيس شركة بترول أبوظبي الوطنية “أدنوك”، الدكتور سلطان الجابر، رئيساً لمؤتمر الأطراف حول المناخ “كوب 28” الذي تستضيفه الإمارات نهاية هذا العام. وجاءت إشادة جون كيري، مبعوث الولايات المتحدة للمناخ، بقرار دولة الإمارات بتعيين الجابر، كإشارة أولى على ارتباك البيت الأبيض في ترتيب أولويّاته السياسية الواقعية من جهة، والأيديولوجيّة اللاهثة وراء إرضاء قواعد الحزب من جهة ثانية.
لم تختَر أبوظبي، الجابر على سبيل الاستفزاز، ولا اقتصرت حساباتها فقط على الخبرة الثريّة التي يتمتّع بها، أكان من خلال رئاسته لـ”أدنوك” أو قبلها من خلال قيادته عام 2006 تأسيس شركة “مصدر” وتحويلها إلى إحدى أكبر الشركات في العالم المعنيّة بالاستثمار في مجالَي الطاقة المتجدّدة والتنمية المستدامة. اختيار الجابر هو رسالة سياسيّة من أبوظبي وطرح مضادّ لطرح “الخير والشرّ”، يفيد بأنّ معركة المناخ وإنجاز الانتقال نحو الطاقة النظيفة والمستدامة، يقوم على استراتيجية التكامل بين تلبية الطلب على النفط، وبين تهيئة شروط الانتقال إلى الطاقة البديلة لا على الصراع الصرف بينهما كمعسكرين متقابلين.
الوضوح الإماراتي في إدارة هذا الملفّ والارتباك السياسي الذي تبدو عليه إدارة بايدن، يمثّلان مشهداً من المشاهد التي تلخّص الفوضى التي تتّسم بها السياسة الخارجية الأميركية، والتي كانت موضوع مقال تفصيلي بالغ الأهمية نشرته مجلة “فورين أفيرز”.
أميركا بلا رؤية اقتصادية
تقول كاتبة المقال، كوريك شايك، وهي تشغل منصب مديرة السياسة الخارجية والدفاعية في معهد “أمريكان إنتربرايز”، إنّ الرئيس جو بايدن تولّى منصبه قبل عامين، حاملاً معه الأمل في الاستقرار وسياسة خارجية جادّة بعد النهج الفوضوي وغير المتوقّع للإدارة السابقة، مشيرة إلى أنّ أوّل عامين لبايدن في البيت الأبيض لم يرقيا إلى مستوى التوقّعات. وبدلاً من ذلك، ابتُليت الإدارة بأهداف متضاربة وانعدام الاتّساق في سياستها الخارجية.
السنتان المقبلتان، ستستنزفان المزيد من الهيبة الأميركية وستزيدان قناعة المقتنعين بأنّ عالم ما بعد أميركا صار أمراً واقعاً، مع كلّ ما يمكن أن تنتجه هذه القناعة من خيارات مُغامِرة، ليست حرب روسيا على أوكرانيا إلا أحد تجلّياتها المرعبة
العيب الرئيسي لاستراتيجية الأمن القومي لبايدن، بحسب كوريك، يكمن في غياب رؤية اقتصادية تسمح للولايات المتحدة ودول أخرى بتقليل اعتمادها على المنتجات والأسواق الصينية. وتلاحظ كوريك أنّ رغبة بايدن في حماية العمّال الأميركيين وتعزيز الصناعات الموجودة في الولايات المتحدة، تتناقض مع متطلّبات بناء تحالف لاحتواء تهديد الصين، لأنّها تعيق قدرة البيت الأبيض على بناء تحالفات مع أطراف دولية عدّة متضرّرة هي الأخرى من السياسات الأميركية الحمائيّة. ولعلّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هو أبرز الأصوات الدولية التي عبّرت عن استيائها من الانتهازية الأميركية والسياسات الأنانيّة التي تُضعف مداميك التحالفات.
وليس خافياً أنّ السياسات الاقتصادية الخارجية للإدارة تسبّبت باحتكاكات مع الحلفاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ نتيجة تجاهل مصالح دول مثل أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وأدوارها المهمّة في أيّ استراتيجية تهدف إلى الحدّ من الهيمنة الاقتصادية للصين. في حين أنّ الصين نجحت في تطوير أكبر منطقة تجارة حرّة في العالم مع دول جنوب شرق آسيا من خلال الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة.
فوضى بايدن وخياراته
هذه الفوضى الاقتصادية والسياسية التي بها تدير واشنطن مصالح الأمن القومي الأميركي، وضعت القوّة العسكرية الأميركية في صدارة الأدوات المستخدَمة لخدمة أهداف ومصالح واشنطن العالمية. بيد أنّ الفوضى نفسها ميّزت أيضاً سياسات بايدن الدفاعية وأساءت إلى هيبة القوّة الأميركية. ليس أدلّ على ذلك من موقف بايدن بشأن تايوان، الذي أسقط أيّ غموض حول استعداد أميركا للدفاع عن الجزيرة في مواجهة اجتياح صيني، من دون أن يُقرَن هذا الموقف بأيّ تغيير في موازنة الدفاع أو مستوى ونوعيّة الانتشار العسكري لخدمة هذا الخيار لو اضطرّ إلى ذلك، وهو ما جعل القوّة الأميركية تبدو وكأنّها قوّة ثرثارة لا تُقرِن القول بالفعل.
تبدو أميركا بايدن أبعد ما تكون، لا عن وعودها وحسب، بل عن أميركا التي عهدها العالم. ولا شيء يوحي بأنّ النصف الباقي من الولاية سيتيح تغييراً جذرياً في السياسات، على الرغم من بعض الإشارات نحو ذلك، كموقف بايدن من ملفّ النفط وتقدير استمرار الحاجة إليه. فثمّة الكثير من الملفّات العالقة مع أبرز حلفاء واشنطن في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، والتي تطال كلّ جوانب الاقتصاد والتجارة والأمن، ولا تملك إدارة بايدن لأجلها لا الوقت ولا الكادر البشري الكافي أو المهيّأ للمهمّة.
إقرأ أيضاً:
السنتان المقبلتان، ستستنزفان المزيد من الهيبة الأميركية وستزيدان قناعة المقتنعين بأنّ عالم ما بعد أميركا صار أمراً واقعاً، مع كلّ ما يمكن أن تنتجه هذه القناعة من خيارات مُغامِرة، ليست حرب روسيا على أوكرانيا إلا أحد تجلّياتها المرعبة.