عكست المناخات التي أحاطت بإحياء العيد الوطني الفرنسي في 14 تموز في قصر الصنوبر مثالاً حيّاً على “الستيل” الذي بات الفرنسيون يتعاطون به مع القيادات السياسية عموماً على باب “نعي” المبادرة الرسمية الوحيدة التي تبنّتها باريس دون غيرها من الدول المعنيّة بالأزمة اللبنانية.
لم يكن تفصيلاً أن يعود وفد قيادة الجيش (لم يكن قائد الجيش من عداده) أدراجه مقاطعاً الحفل اعتراضاً على الإجراءات الأمنية التي بدت مشدّدة أكثر من المعتاد، ومن ضمنها المرور عبر السكانر الإلكتروني، وصولاً إلى الاعتراض على مسار ومكان ركن السيارات. انفرد من بين الوزراء، وزير الحزب علي حميّة بالانسحاب أيضاً رافضاً دخول القاعة، فيما دخل بقيّة المدعوّين من وزراء ونوّاب ورؤساء أجهزة أمنيّة وضبّاط بعد خضوعهم للتفتيش الإلكتروني.
يقول مصدر مطّلع لـ “أساس”: “الفشل الفرنسي الذريع لم يتجسّد فقط بسقوط معادلة فرنجية-نواف سلام، بل في تقصّد ممثّلي “عواصم الخماسية” حذف أيّ كلمة في بيان لقاء الدوحة في 17 تموز تشير إلى احتمال السير بخيار الحوار بين اللبنانيين
اكتمل المشهد بالخطاب اللاذع للسفيرة الفرنسية آن غريو الذي سبق بثلاثة أيام اجتماع اللجنة الخماسية في الدوحة، ومعه أُسدلت الستارة على مهمّتها في لبنان التي بدأتها عام 2020 ويخلفها فيها السفير هيرفيه مارغو. صحيح أنّها ليست المرّة الأولى التي يعتمد فيها المسؤولون الفرنسيون هذه اللهجة غير الدبلوماسية في “شرشحة” قيادات الأزمة في لبنان، لكنّ غريو بشكل أو بآخر كانت تمهّد لدفن المبادرة الفرنسية التي تمّت مراسيمها في لقاء الدوحة في ضوء خلاصة أساسية يردّدها مسؤول غربي مؤيّد للحراك الفرنسي: الفشل الفعليّ لم يكن برفض الأميركيين والسعوديين والقطريين والمصريين للمبادرة الفرنسية بل في وضع قيادات الداخل العصيّ في دواليبها. فهل يمكن تخيّل مواقف هذه الدول لو توفّر التقاطع الداخلي “الوازن” على معادلة فرنجية-نوّاف سلام؟
منّنت فرنسا، بلسان سفيرتها المُغادِرة، القيادات اللبنانية بما فعلته باريس لأجلهم ولأجل قواهم الأمنيّة، فقالت: “أين كنتم لو لم تحشد فرنسا جهود المجتمع الدولي ثلاث مرّات متتالية لتجنّبكم انهياراً عنيفاً تحت وطأة الإفلاس المالي وانفجار مرفأ بيروت، وكيف كان سيصبح عليه وضع لبنان لو استسلمت فرنسا في ظلّ أصدقائه “النادرين”؟!”.
فعليّاً، تحدّثت غريو بلسان إيمانويل ماكرون وكلّ أركان الأزمة الذين تناوبوا أو عملوا ضمن فريق عمل بتغطية الإليزيه.
يقول مصدر مطّلع لـ “أساس”: “الفشل الفرنسي الذريع لم يتجسّد فقط بسقوط معادلة فرنجية-نواف سلام، بل في تقصّد ممثّلي “عواصم الخماسية” حذف أيّ كلمة في بيان لقاء الدوحة في 17 تموز تشير إلى احتمال السير بخيار الحوار بين اللبنانيين. وهي الوصفة اليتيمة التي كان الموفد الفرنسي جان إيف لودريان يستعدّ لعرضها على أفرقاء الداخل بعد عودته إلى بيروت ومهّد لها خلال لقاءاته السابقة بدعوة شخصيات محدّدة إلى عقد لقاءات تقارب لتنفيس حدّة الاحتقان أوّلاً، ثمّ تذليل العقبات التي تحول دون انتخاب رئيس الجمهورية من دون الإشارة بالإصبع إلى سليمان فرنجية، وصولاً إلى إعلان رغبته بالإعداد لهذا الحوار وإدارته”.
“كارثة” الفرنسيين الحقيقية هو الجمود السعودي المفتوح على مزيد من استنزاف الوقت
يشير المصدر نفسه إلى أنّ “لودريان سَمِع خلاصة بيان الدوحة من المستشار في الأمانة العامّة لمجلس الوزراء السعودي نزار العلولا قبل توجّهه إلى قطر للاجتماع مع أعضاء اللجنة الخماسية”، متشكّكاً في قدوم لودريان في 24 تموز الجاري، ذلك أنّ الأخير قد يُجري “حواراً” جانبياً أكثر تفصيلاً مع ممثّلي عواصم اللجنة الخماسية قبل قدومه إلى لبنان.
عشرة أشهر تقريباً فَصَلت بين بيان نيويورك الأميركي-السعودي-الفرنسي وبيان الدوحة اللذين توسّطهما لقاءُ باريس في شباط الماضي الذي منح الفرنسيين مهلة سماح للتأسيس للحلّ وتطنيشٌ عن صدور بيان تمّ تأجيل صدوره فعليّاً حتى 17 تموز.
لم تكن كلّ هذه المدّة كافية لتغيير معطى حديدي يعرفه الفرنسيون جيّداً، لكنّهم كابروا عليه، وتمثّل في المظلّة السعودية-الأميركية المدعّمة بالقاطرة المصرية-القطرية والتي كانت حاضنة للحلّ لا مروّجة له. فحتى الآن وعلى الرغم من كلّ الحديث عن ضغط قطريّ للسير بخيار قائد الجيش يجزم مطّلعون، استناداً إلى تقارير دبلوماسية، أنّ الدوحة منفتحة على خيار ثالث يكسر حدّة الصدام بالترشيحات وليس بالضرورة أن يكون الخيار قائد الجيش حصراً، والأهمّ أن لا “ديل” من دون الموافقة السعودية. أمّا لناحية الرياض فسلّة التفاهمات الخليجية، والعربية تحديداً، بشقّها السعودي- الإيراني والسعودي- السوري، لم تنعكس طوال فترة الأشهر العشرة مرونة في تعاطي الرياض مع ترشيح فرنجية باستثناء الوقوف جانباً والتفرّج على “المَلغصة” الفرنسيّة.
“كارثة” الفرنسيين الحقيقية هو الجمود السعودي المفتوح على مزيد من استنزاف الوقت. هذه كانت خلاصة لقاء لودريان مع وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان الذي سبقه اجتماع مع العلولا قبل لقاء الدوحة. وهي خلاصة أبلغها شفهيّاً عبر الهاتف لبعض المعنيّين بالأزمة.
إقرأ أيضاً: نوّاب سلامة: هل قرّروا “المغامرة” بالليرة؟
لكنّ ثمّة تفصيلاً داخلياً أساسياً قد يعيد خلط الأوراق في حال تمكّن التيار الوطني الحر والحزب بعد جولة الصدام في 14 حزيران من الوصول إلى تقاطعات رئاسية مشتركة بدأت بوادرها على مستوى غير سياسي بينهما يتّصل بملفّ النازحين ثمّ في اتّصالات الكواليس التي عكست جزءاً منها تصريحاتٌ لمسؤولين في التيار جاهروا بـ “احتمال القبول بفرنجية لقاء شروط، منها إقرار اللامركزية الإدارية والمالية في مجلس النواب، بقانون لا بالكلام والوعود، قبل دخول القاعة لانتخاب رئيس الجمهورية”.