الكلمة التي ألقاها شوقي بزيع في الجامعة اليسوعية في بيروت في حفل توزيع جائزة هاني فحص للحوار والتعدّدية.
****
على المرء أن يمتلك رشاقةَ الحواة ومهارةَ البلاغيّينَ وكتّابِ التوقيعات لكي يختزلَ حياةَ السيد هاني فحص وهويّاتِهِ وأدوارَهُ بدقائقَ معدودة، ومع أنّ الاشتغالَ على اللغةِ كان واحداً من المهن التي أوليتُها عنايتي القصوى، إلا أنّني تساءلتُ وأنا أحضّرُ لهذه اللحظات المربكة عن أيّ هاني فحص أكتب، أعن رجل الدينِ أم رجل الدنيا، أعن المناضل السياديّ المأخوذِ بنهائيّةِ الكيان اللبناني، أم عن المقاوم المفتونِ بفلسطين، أعن الكاتب السياسيّ أم كاتبِ المقالة والسيرة، أعن المفكّرِ المستنير أم عن الناثر المطعّمِ بروح الشعر؟ ثمّ تساءلت، كيف أمكن للسيّدِ أن ينجز كلَّ ذلك في حياةٍ واحدة، ودون أن يفرّط في الوقت ذاته بحبّ أمّ حسن، عشقِه الأبديّ الذي أثمر ابنتينِ اثنتينِ وثلاثةَ أبناء، يتقاسمون الرقّةَ والصلابةَ كلٌّ على قدْر حاجتِه .
ثمّ ماذا تركتَ لي يا سيّدُ لكي أتمّمَ به معناك أو أملأَ به مكانَك الشاغر؟ وحيث كنتُ أظنّ أنّ الثقَلَ الرمزيَّ لعمامتك لا بدّ أن يجعلك بمنأىً عمّا يتقاسمُه الدنيويّونَ من غنائم، إلا أنّك نافستَ الأبيقوريّينَ على مباهج الحياة، والصاغةَ على تلميع الأمل، والعشّاقَ على صوت فيروز، أمّا الشعراء فلم يذهبوا إلى مكانٍ إلا ووجدوك قد سبقتَهم إليه.
على أنّك في كلّ ما فعلتَه لم تكن تركنُ إلى يقين، لأنّ أكثرَ ما كان يؤنسك هو انشقاقُ الحقيقةِ على نفسها والبلبلةُ التي تحثّ العقول على العمل. وهو ما تشاركتَ فيه مع رفيق دربكَ السيّد محمد حسن الأمين، ونفرٍ آخرَ من الكوكبة التي قوّضتْ هدوءَ المؤسّسةِ الدينية النجفيّة ومنحتْها نكهةً حداثيّةً غيرَ مسبوقة. وكان عقلكَ الشبيهُ بمصيدةٍ للأعاصير يتصدّى بكلّ ما يملِك لإيمانِ القطعان والثغاءِ الجمْعيّ. وفي وقوفك الجريء على خطّ التماس الفاصلِ بين اليقين والشكّ، بدوتَ وكأنّك تؤثرُ جحيمَ الاعتراض على جنّة التسليم، وتنتصرُ لجمر المشاكسةِ المؤرّق على رمادِ الطاعة الساذجة.
ولأنّك لم تُرِد للقبِ صاحبِ السماحة الذي يسبِقُ اسم رجلِ الدين، أن يكون مجرّدَ تبجيلٍ فولكلوريّ، فقد اتّخذتَ من صورة زينِ العابدينَ في قصيدة الفرزدق قدوتَك الحسنةَ ومثالَك الأسمى فكنتَ سمحاً بشوشاً وسهلَ الخليقة، خلافاً لبعض أصحاب الغلظة والفظاظة من المعمّمين الذين يرجموننا كلّ يوم بآلهةٍ من التهديد والوعيد طاردةٍ للرحمة، بما يستوجبُ منعَهم من الظهور على الشاشات قبل العاشرةِ مساءً، لما يشكّله هذا الظهورُ من خطرٍ على السلامة العامّة، وبخاصّةٍ على الصحّة النفسيّةِ للأطفال والعجزة وضعاف القلوب .
وليس صدفةً يا سيّد أن تُمنح باسمك جائزتان اثنتان إحداهما لصنّاع السلام والأخرى للدفاع عن التعدّديّة، وأنت من رفع رايتيهما معاً في كلّ محفلٍ وميدان، ولعلّك حيث أنت، تشعر بالكثير من الرضا بذهاب الأولى إلى معالي الأمين العامّ عمرو موسى، المجسِّدِ الأمثلِ لروح مصر، والمنافحِ الصلبِ عن السلام وعن قضايا العرب القومية، وبذهاب الثانيةِ إلى المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وإلى جمعية فلسطينية مقدسيّة، حيث كلُّ شيءٍ بين البلدين قابلٌ للتقاسم، فلو طار طائرٌ فوق صفد لرسمتِ الشمسُ ظلّاً لجناحيه فوق بيوت بنت جبيل، ولو نزفَ دمٌ شهيدٌ فوق ترشيحا، لملأت شقائقُ النعمان هضابَ قانا الجليل.
وفي حين أنّنا لا نملك إلّا القليلَ لكي نفعلهُ إزاءَ الزلازل الطبيعية الأخيرةِ التي ضربت الأرض، فلطالما اعتبرتَ أنت بأنّنا قادرون عن طريق الحوار الهادئ والعقلاني على رأب الفوالق الإثنيّة والإيديولوجيّة التي تمنع صدوعَ العالمِ من الالتئام. وبين صرخةِ رامبو “أنا آخر” وإعلان سارتر “الجحيمُ هو الآخرون” انتصرتَ أنت للشاعرِ على الفيلسوف ولمتعةِ التنوّعِ ضدّ الرتابةِ العجفاء للامتثالِ القطيعيّ. وحيث كانت الحدودُ بين الآلهة والأنبياء تُرسَّمُ بالفؤوس والسكاكين، كان يطيبُ لك أن تدعو الأفرقاءَ جميعاً لإرسال من يمثّلهم الى مجلسك، فتحاورهم بصبرٍ حاذق، وتحاول التأليفَ بين قلوبهم قدر ما تستطيع، حتى إذا أدركتْك لحظة الإبداع، أو الساعةُ السليمانيّة وفق تعبيرِ اليمنيّين، أعلنتَ رفع الجلسة، معيداً الأرضيّين منهم بسيّارات الأجرة والسماويّينَ بالمناطيد.
أمّا لبنانُ الذي ارتضيتَه وطنَك النهائيّ وموئلَ أحلامك، فلكَم آلمك أن يتّخذ زعماؤه من طوائفهِ المتنوّعةِ خنادقَ ومتاريس للعنف الدموي، وأن يحوّلوها عند الحاجةِ إلى حصّالاتٍ لتكديس الثروات، أو دشمٍ محصّنةٍ للاحتماء من العدالة، أو صكوكٍ مقدّسةٍ لتأبيد الطغيان. ولأنّكَ كنت على الدوام منسجماً مع نفسك وقناعاتك الراسخة، فلم يُرضِك وأنت المقاومُ الشرس، أن يصبح المقدّسُ رافعةً للاهتراء، والدمُ المراقُ حائطاً في وجه التغيير، ولا استطعتَ أن تفهم كيف تستقيمُ المعادلةُ بين تحرير الأرض واستعبادِ الإنسان.
لا بدّ أخيراً من التنويه يا سيّد بأنّ رحيلكَ المبكرَ بدا ضرباً من الاحتجاج على زمن عقيم لا يدور على توقيت فكرك الخلّاق، ووطن تمّ إفراغه من معناه حتى بات أضيق من مقاس أحلامك. حتى إذا عدت الى كنف التراب الأمّ، ونصّبتك الأرضُ إماماً على الينابيع، رحتَ تُرشد المياهَ إلى نقائها والحصى إلى بريقه القديم والعشبَ إلى ممرّاته الآمنة، أنت من عنته صبايا الجنوب ذات أغنية بالقول :
كان يأتي صباحاً وفي يده طرحة العرس،
ثمّ يقلّم أشجار عينيه
حتى يعرّش في الشمس كالأنبياء
وكان يراقص شتلة تبغٍ
ويجذبها نحو كفّيه لكنّها لا تصل،
فيقطر حزناً وتقطر سحراً،
ويمتدّ، تمتدّ، حتى يلامسها في السماءْ