ماذا طلب رفيق الحريري من أحمد زويل؟

مدة القراءة 7 د

ذهبت مع الدكتور أحمد زويل والسفير المصري حسين ضرار لتقديم واجب العزاء عن استشهاد الرئيس رفيق الحريري. زرنا السيّد سعد الحريري في قصر قريطم، وكان معه السيّد فؤاد السنيورة.

رفيق الحريري ومهاتير محمد

دار حديث مطوّل بيننا في ذلك العزاء السياسي، في تلك اللحظة الحرجة من تاريخ لبنان. قلت للشيخ سعد الحريري: “لقد انتهت معركة السياسة وبدأت معركة الإدارة، فماذا أنتم فاعلون؟”. قال: “هذا صحيح”، واستكمل السنيورة: “لقد بدأ الجهاد الأكبر. إنّ فتح مكّة بكلّ ضخامته، كعمل سياسي وعسكري، اعتبره الرسول صلّى الله عليه وسلّم جهاداً أصغر”.

قال الدكتور زويل: لقد زرتُ ماليزيا أخيراً، وأعجبني التوافق الوطني على الرغم من تعدّد الطوائف والأعراق. تجربة ماليزيا قريبة من لبنان في قضية الطائفية، ويمكن التأسّي بها في بناء الدولة. وكان تعليق سعد الحريري: “يا دكتور زويل، المشكلة هنا تكمن في عدم إقرار كلّ اللبنانيين لشخص واحد أو فكر واحد، كما حدث في ماليزيا. قال مهاتير محمد لوالدي: تحتاج إلى نوعٍ من الإقرار أو التسليم، لكنّ لبنان لا يسلّم لك”.

ذهبت مع الدكتور أحمد زويل والسفير المصري حسين ضرار لتقديم واجب العزاء عن استشهاد الرئيس رفيق الحريري. زرنا السيّد سعد الحريري في قصر قريطم، وكان معه السيّد فؤاد السنيورة

مايكل عطيّة.. الفرص الضائعة

كان السيّد نجيب ميقاتي رئيساً للوزراء في ذلك الصيف الساخن من عام 2005، وقد أصبح السنيورة والحريري الابن رئيسين للحكومة فيما بعد.

في اليوم التالي زرنا الرئيس ميقاتي في السراي الحكومي، ودار نقاش مطوّل بشأن حركة العلم والسياسة في العالم. وكان من بين ما قاله رئيس الحكومة أنّ العالم العربي في وضع علمي متراجع جدّاً. وقد أصبح بعيداً جدّاً عن المنافسة العالمية. بل إنّ الفارق بين أوروبا وأميركا يصل إلى خمسين عاماً. وهنا قال الدكتور زويل: “لقد زرتُ المعهد الملكي للعلوم في بريطانيا، وسمعت رئيس الوزراء توني بلير يقول إنّ على بريطانيا أن تستعدّ بقوّة للدخول إلى القرن الحادي والعشرين، وهو ما يعني أنّ بريطانيا ما تزال متخلّفة عن القرن الذي بدأ قبل خمس سنوات”.

قال نجيب ميقاتي للدكتور زويل: “إذاً سيكون إنجازنا هو الإبقاء على المسافة من دون أن تزيد. بقاء المسافة كما هي سيكون إنجازاً بحدّ ذاته. ولكن يا دكتور زويل، قل لنا: من أين نبدأ؟”. أجاب الدكتور زويل: “دولة الرئيس، العلم هو الحلّ. هناك قرابة عشر شخصيات لبنانية عالمية في مجالات العلم، وقد التقيتُ منهم عالم الرياضيات الشهير مايكل عطيّة، وهو الآن فوق الثمانين. كان يجب أن تستفيدوا من هذا الرجل قبل نصف قرن. لماذا لم تفعلوا؟”. ردّ الوزير طارق متري: “لقد دعوناه إلى هنا، ثمّ أطعمناه الكثير من الكبّة والتبّولة والفتّوش، ثمّ ودّعناه”!

جنازات وحراسات

كانت الأجواء العامّة في لبنان في تلك الأثناء صعبةً جدّاً. كانت الاغتيالات تتوالى، ويجري تفخيخ السيّارات واحدة وراء أخرى. وقد حزنت كثيراً لفقدان أصدقاء في ذلك السيل من الدم، وكان من بينهم الكاتب الصحافي سمير قصير، الذي التقيته للمرّة الأولى في ندوة نظّمتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) في المملكة المغربية، والكاتب الصحافي جبران تويني مالك جريدة “النهار” ونجل الكاتب غسّان تويني.

سمعتُ الأستاذ غسّان تويني يقول للمطران جورج خضر: “اليوم كنتُ في جنازة جورج حاوي. كلّ الذين جاؤوا للعزاء تحيطهم حراسات قويّة لأنّهم جميعاً على قوائم الاغتيال”. ثمّ واصل تويني في يأس: “لبنان الآن نصفه شهداء، والنصف الثاني يذهب إلى العزاء”!

عصر الدولة

كان اغتيال الرئيس الحريري ثالث الأحداث الكبرى السيّئة في العالم العربي المعاصر. الغزو العراقي للكويت 1990، والغزو الأميركي للعراق عام 2003، واغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، هي أحداث ساهمت في إشعال قوس النار من بغداد إلى بيروت.

لم يقُل الرئيس رفيق الحريري: “أنا الدولة والدولة أنا”، كما قال الملك لويس الرابع عشر ذات يوم. لكنّ الأمور بدتْ كذلك. فلقد كان عصره هو عصر الدولة، وما بعده عصر اللادولة.

رأى الدكتور زويل في مشروع الابتعاث اللبناني إلى الخارج، الذي يرعاه الرئيس الحريري، الطاقة المحرّكة للمشروع العلمي اللبناني. وللأسف الشديد، أوقف حادث الاغتيال كلّ شيء، فلم يكتمل المشروع السياسي، ولم يبدأ المشروع العلمي

المحاسب وسلّة التفّاح

في قصّة الرئيس الشهيد رفيق الحريري العديد من المشاهد التي توجب التأمّل:

– المشهد الأوّل: ذلك الطفل ابن المزارع في صيدا، الذي كان يعمل في حدائق الفاكهة، ويمسك بالسِّلال ليجمع البرتقال والتفّاح، وكان عليه أن يدرك عنصر الوقت، وأن يميّز في ما يقوم بجمعه بين الصالح من الثمر والفاسد منه. وكان عليه أن يرى الإنجاز في نهاية يوم العمل حجماً ووزناً، إذ كان المعيار ما يعمل ويفعل لا ما ينوي أو يريد.

– أصبح “جامع البرتقال” محاسباً ومدرّساً للرياضيات، بعدما درس في كلّية التجارة بجامعة بيروت العربية. ومرّة أخرى كان عليه أن يجيد الجمع والطرح، وأنْ يتقِن حسابات المال والبشر، وأنْ يعرف معنى دراسة الجدوى وآفاق المكسب وحدود الخسارة.

– بين الزراعة والمحاسبة، عمل الرئيس الشهيد مدقّقاً لغوياً في إحدى الصحف المحلية اللبنانية، فكان عليه أن يقرأ جيّداً حتى يرى الأخطاء، أيّاً كان موقعها، فينهض إلى تصحيحها.

المسلسل التلفزيونيّ

من “سلّة التفّاح” إلى “التدقيق الصحافي”، إلى “المحاسبة”، ثمّ من “الشركة الخاصّة” إلى شركة “سعودي أوجيه”. ومن المشاركة في “اتّفاق الطائف” إلى رئاسة الحكومة ثلاث مرّات، ثمّ الاغتيال الذي هزّ لبنان والعالم. هنا تكمن فصول دراما مذهلة لرجل عظيم.

إلى جانب ذلك كلّه رجلُ خيرٍ صنع المعروف لأجل الجميع، لم يفرّق بين مؤيّد ومعارض، ولا بين طائفة وأخرى. ثمّ تجاوز أعمال الخير التقليدية التي تشمل رعاية المحتاجين إلى أعمال الخير التنموية، ولا سيّما دعم التعليم الجامعي وما بعد الجامعي، وتمويل عشرات الآلاف من المنح الدراسية بالخارج، لتأسيس نخبة جديدة تكون قادرة على استعادة الأمل.

قال لي الدكتور أحمد زويل: “تحدّث معي الرئيس رفيق الحريري من أجل إقامة مشروع علمي عالمي في بيروت، على غرار “مدينة زويل” لاحقاً. وكان شديد الإيمان بالمشروع، وشديد الحماسة لكوْن التقدّم العلمي هو الطريق الأطول، لكنّه أيضاً الطريق الأقصر إلى تحقيق الأهداف الوطنية الكبرى”.

رأى الدكتور زويل في مشروع الابتعاث اللبناني إلى الخارج، الذي يرعاه الرئيس الحريري، الطاقة المحرّكة للمشروع العلمي اللبناني. وللأسف الشديد، أوقف حادث الاغتيال كلّ شيء، فلم يكتمل المشروع السياسي، ولم يبدأ المشروع العلمي.

إقرأ أيضاً: هل كان يتمتّع حقّاً بهذه القدرات السحرية؟

ربّما يتوجّب عليّ هنا أن أقترح على مؤسّسة “أساس ميديا” أن ترعى مسلسلاً تلفزيونياً بعنوان: “سنوات رفيق الحريري” لا يهدف إلى تخليد رجل دولة يستحقّ التخليد، وإنّما بثّ الوعي في ما يتّصل بسنوات صعود الدولة واستعادة الأمل بعودتها من جديد.

رحم الله الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وحفظ الله لبنان.

* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.

له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.

مواضيع ذات صلة

ذكرى رجل أم ذكرى بلد؟

فجأة تنتبه أنّك تكتب عن رفيق الحريري بصيغة الحاضر. ثمّ تفكّر أنّ الأمر لم يحصل سهواً، وأنّ الكتابة عن رفيق الحريري هي عملية معاندة بين…

اغتيال رفيق الحريري: زلزال المنطقة المستمرّ

تمرّ الذكرى الـ18 لاغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط 2005، ليتبيّن مع مرور الوقت أمران: – أوّلهما أنّ تفجير موكب رفيق الحريري ورفاقه،…

مسرّة لـ”أساس”: مار مخايل برنامج لشيطنة الحريري..

“هو رجل الاستقلال الثاني”، بهذه الجملة يُعرِّف المرجع الدستوري الدكتور أنطوان مسرّة الرئيس الشهيد رفيق الحريري. لا ينظر الدكتور مسرّة إلى تاريخ 14 شباط كذكرى…

لم يكن شاعراً.. لكن صنع مستقبلاً من العاطفة

في سنوات غياب رفيق الحريري عن المشهد السياسي اللبناني، لم يختف أثر لمسته الإيجابية في الحياة اللبنانية. فظل حاضراً رمزاً لاستقلال لبنان وإرادته الحرة وتفوقه…