وقع الانهيار المالي بعد 15 سنة من استشهاد رفيق الحريري تعاقب فيها 3 رؤساء جمهورية وعدد لا يُحصى من الحكومات والحروب والاغتيالات والمتفجّرات والتظاهرات وسنوات الفراغ والتعطيل. مع ذلك، كان هو محور النقاش حول ما وقع وما كان بالإمكان أن يكون لو لم يُقتل الحلم.
عون ووزارة الماليّة
لم يكن رئيس الجمهورية السابق ميشال عون يجد ما يُلقي عليه باللائمة في انهيار عهده إلا “سياسات السنوات الثلاثين الماضية”، ويحدّد عام 1992 وليس 1990، تاريخاً لبدء المشكلة. وعلى هذا المنوال يسير متحدّثون كُثُر يملأون الشاشات بلازمة لم تتغيّر بعد 18 سنة على استشهاده، وبعد 12 سنة من خروج تيار المستقبل من وزارة المالية لآخر مرّة.
ما يستدعي التوقّف أنّ وزيرين فقط من تيار المستقبل تولّيا وزارة المالية في مرحلة ما بعد اغتيال الحريري، ولأقلّ من ثلاث سنوات: الشهيد محمد شطح في حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بعد اتفاق الدوحة عام 2008. وريّا الحسن في حكومة الرئيس سعد الحريري بعد انتخابات 2009. وكلاهما لم يقضيا في الوزارة سوى أشهر قليلة، ما خلا تصريف الأعمال.
يكاد الحريري لا يُقرَأ إلا بوصفه مشروعاً اقتصادياً، إلى حدّ أنّه يُختزل بالقسمة الضيزى مع آل الأسد: لكم السياسة ولنا الاقتصاد. لكن بالأمن ضُرب الاقتصاد وضُربت السياسة
وعلى مدى السنوات الثلاثين تناوبت على وزارة المالية تيّارات فكرية واقتصادية متعدّدة: من جورج قرم في مطلع عهد إميل لحّود، إلى إلياس سابا في حكومة عمر كرامي بعد التمديد، ثمّ دميانوس قطّار في حكومة نجيب ميقاتي عام 2005، ثمّ جهاد أزعور في حكومة السنيورة بعد انتخابات 2005 (لا بدّ من فتح قوسين لنتذكّر أنّ أزعور الذي يتولّى بنجاح أعلى منصب تنفيذي لبناني أو عربي في صندوق النقد الدولي، يطرح جبران باسيل اسمه لرئاسة الجمهورية اليوم. وربّما نسي أنّه هو مَن كان يصوّر وجوده في وزارة المالية انتقاصاً من حقوق المسيحيين!)، ثمّ محمد الصفدي في حكومة القمصان السود الميقاتيّة، إلى أن دانت وزارة المال للثنائي الشيعي عام 2014 ولم تخرج من حوزته بعد ذلك.
جوهر الفكرة الحريريّة
ثمّة سبب لاستحواذ رفيق الحريري، اسماً وصورةً، على النقاش الاقتصادي والمالي في البلاد بعد مرور كلّ هذه السنين: هو الوحيد الذي امتلك مشروعاً وفكرة للبنان واقتصاده. وقد سقطت تلك الفكرة، لا من تلقاء نفسها، بل لأنّ هناك من أسقطها بالقوّة، وكان لذلك السقوط ثمن اقتصادي وثمن ماليّ، بالطبع إلى جانب الثمن السياسي.
جوهر الفكرة الحريريّة أنّ لدى لبنان ما يؤهّله ليكون مركزاً ماليّاً وخدميّاً وسياحياً قادراً على الاستفادة من وفرة عوائد النفط والغاز في الخليج. ولا شكّ أنّ من الانتحار أن يكون بجوار أيّ بلد ثروة تدرّ نصف تريليون دولار سنويّاً ولا يصمّم اقتصاده على أساس الاستفادة منها. تلك هي الفكرة التي بُنيت عليها اقتصادات هونغ كونغ وسنغافورة ودبي ولوكسمبورغ. ولكي تنجح الفكرة لا بدّ من عنصرين:
– موارد بشرية قادرة على تقديم القيمة المضافة.
– بنية تحتية متقدّمة لاجتذاب الأعمال والسيّاح.
ليست فكرة رفيق الحريري عصيّة على الفهم، لكنّها عصيّة على التطبيق من دونه. الشواهد الحيّة تقول إنّه بنى وسط العاصمة ومطاراً ومرفأً وحرماً جامعيّاً ومدينة رياضية ومعامل كهرباء وشبكة اتصالات وأوتوسترادات وجسوراً كثيرة. كلّ ذلك أسّس له في سنواته الستّ الأولى في الحكم، وبتكلفة تقلّ عن مليارَيْ دولار، أي أقلّ ممّا خسرته كهرباء لبنان في سنة واحدة، أو ممّا بدّدته الدولة على الدعم العبثيّ في أسابيع قليلة بعد اندلاع أزمة 2019. أمّا الدين العامّ، فقصّة أخرى يقف خلفها عجز الموازنة الذي يقف خلفه التوظيف السياسي في مؤسّسات الدولة، والفساد المستشري، وانعدام الكفاءة في الإدارة العامّة. وفي هذا السياق يندرج العجز وقلّة الحيلة في كهرباء لبنان.
بعد 18 سنة على استشهاد الحريري، باتت “الحريرية”، ببعدها الاقتصادي، الفكرة الطبيعية التي يردّدها محبّوه والمناوئون. لكنّها الفكرة المستحيلة في هذه الجغرافيا التي تنصبّ عليها أطماع راسمي الخرائط وجامعي مفاتيح العواصم
خصومه يكرّرون فكرته
يكرّر خصوم الحريري أفكاره هذه الأيام:
– سليمان فرنجية الذي لا يفوّت مقابلة لانتقاد “السياسات الحريريّة”، لديه فكرة اقتصادية وحيدة، تتمثّل بإطلاق مشاريع تطويرية، على غرار سوليدير، لرفع قيمة أصول الدولة وخلق العوائد.
– نائب رئيس مجلس النواب إلياس بو صعب كرّر الفكرة نفسها قبل أسبوعين في مجلس النواب، في سياق حديثه عن صندوق استعادة الودائع. واستدلّ بسعر “متر الهوا” في سوليدير ليوضح مقصده.
مشكلة هؤلاء أنّهم لا يرون من “سوليدير” سوى سعر “متر الهوا”. كانت فكرة رفيق الحريري من بناء وسط البلد أبعد من ذلك. كان يريد استعادة الشراكة من الباب الاقتصادي، بحيث يشارك الجميع في النهوض والإعمار.
هذا في المستوى المحلّي. أمّا في المستوى الخارجي، فكانت الفكرة ربط اقتصاد لبنان بالشرايين الخليجية التي تغذّيه بالاستثمارات وفرص العمل والطلب على السياحة والخدمات.
يمكن العودة إلى آخر مناقشة للموازنة في حكومات رفيق الحريري عام 2004. وكان الرئيس السنيورة حينها وزيراً للمالية. في تلك الجلسة طرح النائب السابق بطرس حرب سؤالاً عن تثبيت سعر صرف الليرة مقابل الدولار، واقترح بدلاً من ذلك تثبيتها مقابل اليورو أو سلّة عملات. كان جواب السنيورة صريحاً حينها: “الربط بالدولار أفضل لأنّ دول الخليج تربط عملاتها به”.
حرب وأمن بلا اقتصاد
الارتباط بالعرب هو أساس الفكرة التي شُنّت عليها الحرب. لم يكن لدى “حزب الله” فكرة اقتصادية بديلة، وليس لديه اليوم شيء من هذا. النموذج البديل الذي حصل على إجماع الشيعة في الانتخابات تلو الانتخابات قدّم نفسه في مجالات أخرى لا صلة لها بالاقتصاد:
– حرب مع إسرائيل.
– استخبارات وأمن.
– مؤسّسات اجتماعية محلّية وبلديّات.
إيران نفسها لم تقدّم نموذجاً في الاقتصاد، بل ارتكز نجاح مشروعها على شبكة الميليشيات والتنظيمات الأمنيّة، من بيروت إلى اليمن والعراق وسوريا.
لذلك فإنّ قرار ضرب فكرة الحريري في الاقتصاد لم تكن بفكرة اقتصادية بديلة، بل بشطب الرجل القادر على تنفيذها. وهذا ما حصل.
يكاد الحريري لا يُقرَأ إلا بوصفه مشروعاً اقتصادياً، إلى حدّ أنّه يُختزل بالقسمة “الضيزى” مع آل الأسد: لكم السياسة ولنا الاقتصاد. لكن بالأمن ضُرب الاقتصاد وضُربت السياسة.
إقرأ أيضاً: في اليوم التالي لسقوط بغداد
بعد 18 سنة على استشهاد الحريري، باتت “الحريرية”، ببعدها الاقتصادي، الفكرة الطبيعية التي يردّدها محبّوه والمناوئون. لكنّها الفكرة المستحيلة في هذه الجغرافيا التي تنصبّ عليها أطماع راسمي الخرائط وجامعي مفاتيح العواصم.
يعرف اللبنانيون أنّ الحريريّة الاقتصادية ليست إلا الخيار الطبيعي، بعيداً عن السياسة وانقساماتها وتحزّباتها. ولذلك تراهم يبحثون عمّا يشبه حلمه في جغرافيا أخرى. هذا هو التفسير لنزوح رجال الأعمال والمبادرين والفنّانين إلى دبي وشبيهاتها لتأسيس أعمالهم وحياتهم هناك. وهذا هو المغزى المكثّف لنزوح سعد الحريري ليؤسّس أعماله في مدينة تشبه حلم والده بعيداً عن السياسة.
سقط المشروع وعاشت الفكرة.