في اليوم التالي لسقوط بغداد

مدة القراءة 7 د

راكم اغتيال الرئيس رفيق الحريري أسئلة لم تجد لها أجوبة شافية بعد 18 عاماً على الحدث. والأرجح أنّ الأجوبة ستبقى غائبة، شأنها شأن قضايا كبرى في العالم حُكم عليها أن تبقى غامضة، ويتعايش العالم بكسل مع تفسيراتها.

سابقة كينيدي

هل تعرفون من قتل رئيس الولايات المتحدة الأميركية جون كينيدي؟

قُتل الرجل في دالاس بتكساس في 23 تشرين الثاني 1963.

تعدّدت السيناريوهات في غياب رواية قضائية حاسمة ومُقنعة تقطع الشكّ بيقين جليّ يكشف جريمة ذلك الزمن. خُطّت الكتب، وتبارت الدراما السينمائية على تخصيب اللغز بالإثارة والتشويق، وراحت القرائح تنتج مزيداً لم ينتهِ من نظريّات المؤامرة، من دون أن نعرف حتى الآن من هي الجهة الحقيقية التي دبّرت قتل كينيدي وما هي طبيعة المؤامرة التي قضت عليه.

قد يبدو الأمر أكثر سوريالية في ما يتعلّق بملفّ اغتيال رفيق الحريري. حظيت القضيّة بمحكمة دولية صادق على إنشائها في 30 أيار 2007 مجلس الأمن الدولي بما يمثّله من إرادات عالمية عظمى. كان يعوز قضية كينيدي محكمة عابرة للحدود تتجاوز عدالة الولايات المتحدة ومنظومتها القضائية. هكذا حصل تماماً مع قضية اغتيال الحريري.

راكم اغتيال الرئيس رفيق الحريري أسئلة لم تجد لها أجوبة شافية بعد 18 عاماً على الحدث. والأرجح أنّ الأجوبة ستبقى غائبة، شأنها شأن قضايا كبرى في العالم حُكم عليها أن تبقى غامضة، ويتعايش العالم بكسل مع تفسيراتها

بين بغداد وبيروت

كشفت محكمة الحريري الدولية الوقائع والملابسات والحيثيّات. سمّت القتلة بأسمائهم ووجّهت الاتّهام إلى المذنبين ثمّ ألقت عليهم حكمها. ومع ذلك، وكما هو حال ما انتهت إليه محاكم وتحقيقات كينيدي، ما زالت ظلال داكنة تُخفي السياق الذي وفّر بيئة إقليمية، وربّما ما فوق إقليمية، حاضنة لقرار تغييب زعيم بحجم رفيق الحريري. 

في نيسان 2003 دخلت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة بغداد وأسقطت نظام صدّام حسين في العراق. في 14 شباط 2005، أي بعد عامين فقط، اغتيل رفيق الحريري. يكرّس السياق الأوّل فائض قوّة أميركيّاً فرض على العالم أجمع رؤيتَه لمستقبل العالم بعد عامين على “نكبة” الولايات المتحدة في “11 سبتمبر” 2001. غير أنّ السياق الثاني في بيروت جاء مخالفاً أو معانداً، أو، ولِمَ لا؟، متواطئاً متّسقاً مع منطق الأمور.

أسقطت الولايات المتحدة بغداد انتقاماً ممّا اقترفه تنظيم أسامة بن لادن ضدّ أميركا. في ثنايا ذلك الحدث دخل جنرالات طهران أيضاً إلى عاصمة العراق انتقاماً من مذلّة ألمّت بالجمهورية الإسلامية حين استنتج روح الله الخميني الهزيمة فتجرّع “الكأس المرّ” في 20 تموز 1988 معلناً القبول بقرار مجلس الأمن الذي صدر قبل عام لوقف الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، فانتهت الحرب. 

لم يكن العامل الإيراني في لحظة سقوط بغداد عام 2003 من الأعراض الجانبية للغزو الأميركي، بل كان شريكاً محرّضاً ضالعاً جرى الإعداد لتواطئه بعناية ودقّة وعن سابق تصوّر وتصميم. في عام 2001 غزت الولايات المتحدة أفغانستان فخلّصت إيران من نظام طالبان الذي ناصب طهران العداء شرقاً. بعد عامين، في عام 2003، أسقطت واشنطن عدوّ الجمهورية الإسلامية الأوّل نظام صدّام في العراق غرباً. فهل ما حدث في بيروت بعد عامين من اغتيالٍ لرفيق الحريري متمّم لهذا المسار؟

هدايا أميركيّة لطهران

لم تكن تلك الهدايا الأميركية في كابل وبغداد صدفة على مقام “مصائب قوم عند قوم منافع”، بل إنّ هذا التحوّل جاء مرسوماً وفق عقائد راجت في واشنطن حملها عتاة “المحافظين الجدد”. اكتشفت بعض نصوصهم خطراً إسلاميّاً سنّيّاً لا عنوان له واشتغلت جماعات في واشنطن على محاولة اتّهام المملكة العربية السعوديّة. أوصت نصوص أخرى بإمكانات التفاهم مع الإسلام الشيعي بالتوجّه إلى عنوانه الوحيد في طهران. بعد عشر سنوات على اغتيال الحريري دبّرت الولايات المتحدة مع إيران صفقة تبنّتها العواصم الكبرى بإذعان وصمت ومن دون أيّ اعتراض تحت اسم “اتفاق فيينا” الموقَّع في 14 تموز 2015.

رسمت واشنطن في بغداد مشهداً أميركياً جديداً في العالم. لكنّها رسمت أيضاً بقوّة النار مشهداً إيرانياً في الشرق الأوسط. في 10 آذار 2016 نشر الصحافي الأميركي جيفري غولدبيرغ في مجلّة “ذي أتلانتيك” مقالاً ضمّ مقابلاته مع الرئيس الأميركي باراك أوباما بعنوان “عقيدة أوباما”. مَن اطّلع على تلك “العقيدة” استنتج بسهولة ذلك التحالف الضمنيّ بين العصرين، الأميركي والإيراني. بدت أميركا كارهةً للعرب وبلدان الخليج ومشدودةً إلى “الحضارة” التي تَعِدُ بها جمهورية الوليّ الفقيه. قال أوباما لدول الخليج: “العلّة فيكم.. اذهبوا وتقاسموا النفوذ مع طهران”.

كشفت محكمة الحريري الدولية الوقائع والملابسات والحيثيّات. سمّت القتلة بأسمائهم ووجّهت الاتّهام إلى المذنبين ثمّ ألقت عليهم حكمها. ومع ذلك، وكما هو حال ما انتهت إليه محاكم وتحقيقات كينيدي

الحلقة الغامضة

أخذت دمشق على رفيق الحريري علاقاته الغربية وصداقاته مع شخصيّات كبرى في عواصم كبرى قريبة وبعيدة. بدا الرجل رشيقاً في تحالفاته العربية والدولية، ويبشّر بمشروع له واجهاته التنموية المتقدّمة، ولا يشبه ما تتحصّن دمشق وطهران خلفه. استسهل النظام السوري اتّهام الرجل بالعمالة لأميركا والتواطؤ مع فرنسا ورئيسها جاك شيراك. بعض تلك الاتّهامات رسمت الحريري عميلاً لأميركا ورجل السعوديّة في لبنان. فكيف يجرؤ مَن قتل الحريري على اغتيال مَن افترضوه شريكاً لفائض القوّة الذي أظهرته واشنطن في بغداد ويحظى بحمايته؟

لا نملك أن نلمّح إلى أنّ شركاء غزوة بغداد من واشنطن وطهران قرّروا وخطّطوا ودبّروا الجريمة معاً. لكنّ محكمة دولية قالت ما قالت بعد أكثر من عقد على إنشائها من دون أن تُظهر واشنطن وعواصم الغرب الحليفة الغيرة على قضيّة رجل لطالما وُصف من قِبل رعاة القتل المفترضين بأنّه رجل أميركا ورجل هذا الغرب في لبنان.

في كانون الأوّل الماضي أفرجت وزيرة الدفاع الفرنسية السابقة ميشال أليو ماري عن سرّ جديد: “ضغوط تعرّضت لها المحكمة الدولية لسحب تورّط النظام السوري”.

تهالك إيران

تبدّلت ظروف العالم. ما زالت الولايات المتحدة تتربّع على عرش الكوكب في الاقتصاد والعسكر والسياسة والنفوذ. غير أنّ تلك الزعامة لم تعُد مطلقة. حرب أوكرانيا واجهة لأعراض اهتزاز ذلك العرش. والصراع مع الصين يمثّل تحدّياً حقيقيّاً مطّرداً تعترف واشنطن منذ عقود بحقيقته وحتميّته. 

تبدّلت أحوال إيران. لم تعد شريك أميركا في غزو بغداد. تتهالك مملكتها في المنطقة ويهتزّ هيكل نظامها في الداخل، وبات العالم الغربي برمّته يعبّر عن توجّهٍ للتعامل مع إيران بصفتها خصماً وعدوّاً. ولا ضرورة هنا للتذكير بما حلّ بسوريا ونظامها في دمشق.

توحي المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أنّ عناصر نفّذوا اغتيال رفيق الحريري ينتمون جميعاً إلى تلك البيئة الحزبية العقائدية التي تنهل نصوصها من جمهورية الوليّ الفقيه في إيران. بدا أنّ طهران كانت تودّ بعد عامين على غزو بغداد توقيع نصرها النهائي على كلّ المنطقة وإخضاعها من خلال غزو دمويّ في بيروت.

خرجت الولايات المتحدة بشكل مذلّ من أفغانستان. أعادت تسليم البلد إلى حركة طالبان بعدما تخلّت عن كلّ البناء السياسي الذي أنشأته ورعته بديلاً. عاد نظام طالبان ليطلّ من جديد على الحدود الشرقية لإيران. لن يعود نظام صدّام حسين، غير أنّ العراق تغيّر. لم يعُد ذلك العراق الذي برّر منطق اغتيال الحريري في بيروت. غاب الحريري وباتت بيروت عاصمة من ضمن عواصم أربع اعتبرتها إيران ساقطة داخل نفوذها.

إقرأ أيضاً: ماذا طلب رفيق الحريري من أحمد زويل؟

لكنّ الزمن تغيّر. تخشاه دمشق وطهران اللتان تتعلّقان بنصر ما تحمله موسكو في أوكرانيا. فربّما في ذلك عودة إلى “زمن جميل”. غاب الحريري الذي ما زال حاضراً وكأنّه غادر ليعود. بعد رحيل الرجل تهافتت عواصم ومنابر وشخصيّات على تكرار أنّها حذّرته من قرارٍ باغتياله. كلّ تلك الجهات أكّدت أنّ الحريري كان واثقاً يردّد “لن يجرؤوا”. كان الرجل ذكيّاً حصيفاً قارئاً للخرائط عارفاً بلعبة الأمم.

لكن هل فاته أن يفهم ماذا عنى سقوط بغداد؟

مواضيع ذات صلة

ذكرى رجل أم ذكرى بلد؟

فجأة تنتبه أنّك تكتب عن رفيق الحريري بصيغة الحاضر. ثمّ تفكّر أنّ الأمر لم يحصل سهواً، وأنّ الكتابة عن رفيق الحريري هي عملية معاندة بين…

اغتيال رفيق الحريري: زلزال المنطقة المستمرّ

تمرّ الذكرى الـ18 لاغتيال رفيق الحريري في الرابع عشر من شباط 2005، ليتبيّن مع مرور الوقت أمران: – أوّلهما أنّ تفجير موكب رفيق الحريري ورفاقه،…

مسرّة لـ”أساس”: مار مخايل برنامج لشيطنة الحريري..

“هو رجل الاستقلال الثاني”، بهذه الجملة يُعرِّف المرجع الدستوري الدكتور أنطوان مسرّة الرئيس الشهيد رفيق الحريري. لا ينظر الدكتور مسرّة إلى تاريخ 14 شباط كذكرى…

لم يكن شاعراً.. لكن صنع مستقبلاً من العاطفة

في سنوات غياب رفيق الحريري عن المشهد السياسي اللبناني، لم يختف أثر لمسته الإيجابية في الحياة اللبنانية. فظل حاضراً رمزاً لاستقلال لبنان وإرادته الحرة وتفوقه…