يصعب فهم كيف يستطيع بشّار الأسد الذهاب إلى حلب المنكوبة وكأنّه في زيارة عاديّة لمدينة سوريّة يوزّع خلالها الابتسامات على المواطنين بدل مواساتهم وإظهار أيّ نوع من التعاطف معهم. يصعب أكثر أن يمهّد لمجيء رئيس النظام السوري إلى حلب وصولُ قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني إلى المدينة. جاء إسماعيل قاآني إلى حلب قبل 48 ساعة من مجيء بشّار. يبدو الهدف واضحاً كلّ الوضوح. الهدف توجيه رسالة إيرانيّة إلى كلّ من يعنيه الأمر فحواها أنّ إيران وضعت يدها على تلك المدينة السوريّة ذات الارتباط التاريخي بتركيا.
بغضّ النظر عن فضيحة الزيارة التفقّدية لحلب التي تكشف أنّ النظام السوري يعيش في عالم خاصّ به لا علاقة بما يدور في العالم، فإنّ سوريا قبل الزلزال ليست سوريا ما بعده. بعد حرب داخليّة مستمرّة منذ آذار 2011، يغيب عن النظام أنّ الزلزال هو بالفعل زلزال أصابه شخصيّاً. يعود ذلك إلى أنّ الزلزال عرّى النظام من ورقة التوت التي كان يستر بها عورته أمام جمهوره العلويّ المؤيّد وبقيّة الأقلّيّات.
ضرب الزلزال عرين النظام في اللاذقية وجبلة في الساحل السوري. تجلّى بوضوح عجزه عن القيام بأيّ خطوة في المناطق المنكوبة من جهة، وإفلاسه الماليّ مع ما يعنيه ذلك من تقديم مساعدة مباشرة للعلويّين بغية انتشالهم من محنتهم من جهة أخرى. والأهمّ من ذلك كلّه، أنّ هذا الزلزال أظهر مشكلة الحرص الشديد على المال لدى أركان النظام. إنّها مشكلة يعاني منها بشّار الأسد شخصيّاً. يرفض رئيس النظام السوري رفضاً كاملاً إخراج المال من جيبه لسدّ النقص في حاجات جمهوره. هذا الجمهور الذي ضحّى بكلّ ما لديه، بما في ذلك خيرة رجاله، لضمان بقائه شخصيّاً على كرسيّه في دمشق.
فاجأ الزلزال النظام عبر بروز حقائق عدّة. الحقيقة الأولى أنّه رهينة لدى حليفين سيحلبانه حتّى آخر قطرة قبل رميه جانباً
ثمّة جانب آخر كشفه الزلزال، عندما أظهر الإفلاس الأخلاقي لجمهور بشار الأسد من خلال حملات ما يُسمّى باللغة المحلّيّة “التعفيش”. “التعفيش” هو السرقات التي يقوم بها “شبّيحة” النظام والمسؤولون الذين عيّنهم للإشراف على توزيع المساعدات والمعونات ورعاية المتضرّرين في اللاذقية وجبلة العلويّتين. فقد اعتاد شبّيحة النظام وأهاليهم خلال السنوات الـ12 الماضية أن تُطلَق يدهم لـ”تعفيش” بيوت ومدن وقرى “أعدائهم” في الوطن بعد تدميرها بالبراميل المتفجّرة أو بواسطة قصف تمارسه الطائرات الروسيّة… أو بعد عمليّات عسكرية للإيراني وميليشياته المذهبيّة.
أمّا اليوم فقد استفاق أفراد جمهور النظام على بيوتهم المدمّرة تُسلب و”تُعفّش” من قبل أهلهم وأبناء حاراتهم. كذلك فوجئ المفجوعون بالزلزال برؤية من يُفترض أن يكونوا القائمين عليهم يسرقون المعونات والمساعدات باليد اليمنى، ويبيعونهم إيّاها باليد اليسرى. لا تتوقّف وسائل الإعلام الرسمية السورية وصفحات التواصل الاجتماعي القريبة من النظام عن إيراد عشرات الحالات لعصابات “تشبيحيّة” تسرق البيوت والمحلّات التي أتى عليها الزلزال. لا تتوقّف أيضاً عن الإشارة إلى مئات الشكاوى العلنيّة ممّا يقوم به المسؤولون والمؤتمنون على توزيع المساعدات من المتاجرة بها.
رسم بشار الأسد في مخيّلته، في لحظة الزلزال، لوحة يرى فيها نفسه يختال بين المعجبين من مختلف أنحاء العالم، خصوصاً من أوروبا، فيطلبون ودّه ويستعطفونه كي يسمح لهم بتقديم المساعدات إلى السوريين المنكوبين. رسم لوحة سوريالية تبيّن أن لا علاقة لها بالواقع. في الطرف الآخر من اللوحة، التي نسجها الخيال، يقف الإيراني والروسي يستجيرانه كي لا يتخلّى عنهما. كذلك توهّم بشار الأسد أنّه يُظهر عطفاً على الأميركي بمجرّد أن يشقّ له طرف باب دمشق ويأذن له بالدخول وتقديم المساعدات الإنسانية إلى السوريين لإنقاذهم من محنتهم. ظنّ أنّ الأميركي سوف يأتي زاحفاً طمعاً بالثواب الذي منحته إيّاه “سوريا الأسد”.
فاجأ الزلزال النظام عبر بروز حقائق عدّة. الحقيقة الأولى أنّه رهينة لدى حليفين سيحلبانه حتّى آخر قطرة قبل رميه جانباً. يعلم القاصي والداني من بيئة النظام أنّ كلّ حبّة طحين تصل إلى سوريا تطلب طهران وموسكو في مقابلها تسديد الثمن مقدّماً بشكل عطاءات ونفوذ واحتكار وسيطرة.
الحقيقة الثانية أنّ النظام صُدم برفض الأميركي دعوته الكريمة وفضّل دخول سوريا من بوّابة الشمال، من مناطق حليفه الكردي. أمّا الأوروبي فقد تفاعل مع الحدث الجلل حسب ما تمليه عليه صورته وإنسانيّته، فلم يهرول لرفع العقوبات عن سوريا كما تتمنّى دمشق، بل سمح بفتح قناة مصرفية استثنائية لتحويل الأموال والمساعدات الإنسانية.
بالنسبة إلى الأميركي تحديداً، قدّمت الخزانة الأميركية قبل أيّام قليلة ما يُسمّى “رخصة عامّة”، وهي عبارة عن استثناء حصري يسهّل مرور المساعدات وشراء الموادّ للاستجابة الإنسانية من أجل مواجهة أضرار الزلزال، وأضرار الزلزال فقط. من خلال “الرخصة العامّة”، مرّرت الولايات المتحدة رساله مهمّة للنظام، وهي أنّه لا توجد لديها نيّة لرفع العقوبات عنه، نظراً إلى أنّ سبب فرض العقوبات لم يتغيّر. الأهمّ من ذلك، أنّ واشنطن حصرت النظام في زاوية ضيّقة من خلال تقديم الورقة وطلب قبوله بهذه “الرخصة العامّة”. ذلك أنّ إقرار دمشق بهذه الرخصة هو بمنزلة قبول بالخضوع للعقوبات والتعامل معها الآن ومستقبلاً عبر المنظمات الدولية فقط. لن تكون هناك قنوات للتواصل المباشر مع واشنطن كما كانت تأمل دمشق.
إقرأ أيضاً: سوريا… من الزلزال السياسيّ إلى الزلزال الطبيعيّ
أمّا الحقيقة الثالثة، وهي الأهمّ، فإنّها تتمثّل في الزلزال نفسه الذي استهدف البيئة الحاضنة للنظام. يواجه النظام وضعاً مشابهاً لذلك الذي واجهه صيف عام 2020 عندما اجتاحت الحرائق المناطق الساحلية، وتحديداً جبال العلويين. لكنّ النظام استطاع وقتذاك امتصاص الصدمة بسبب صغر حجم الحرائق مقارنة بالزلزال الحالي. فالزلزال أشدّ عنفاً من الحرائق ولا يمكن التكهّن بنتائجه في المدى المنظور ما دام النظام يتمسّك بعنجهيّته وباعتبار الشعب السوري قطيع غنم يستطيع أن يحرّكه وأن يسيطر عليه بعصا المخابرات السورية وعنفها. الوضع المختلف هذه المرّة هو أنّ أفراد الأجهزة الأمنيّة السوريّة أنفسهم سيصبحون قريباً في مواجهة إخوتهم وأهاليهم.