عندما يذهب أشخاص مثل الرئيس السابق للجمهورية محمد خاتمي ورئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي إلى المطالبة بـ”تغيير النظام السياسي” في إيران، فذلك يدلّ على أنّ أمراً ما تغيّر في العمق منذ بدأ التحرّك الشعبي الواسع في 16 أيلول الماضي.
هناك بداية ثورة جديدة في إيران، بدأتها المرأة التي أزالت الحجاب احتجاجاً على قتل شرطة الأخلاق الفتاة الكرديّة مهسا أميني. في أساس الثورة الجديدة توجد أزمة نظام في “الجمهوريّة الإسلاميّة”. لم تعد الأزمة مرتبطة بحرّيّة ارتداء الحجاب وكيفيّة ارتدائه… أو عدم ارتدائه. تتعلّق الأزمة بما ناضل الإيرانيون من أجله طوال سنوات، من أجل التخلّص من نظام الشاه، فإذا بهم ضحيّة نظام أسوأ من ذلك الذي كانوا يشكون منه قبل عام 1979.
عندما يذهب أشخاص مثل الرئيس السابق للجمهورية محمد خاتمي ورئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي إلى المطالبة بـ”تغيير النظام السياسي” في إيران، فذلك يدلّ على أنّ أمراً ما تغيّر في العمق
ناضل الإيرانيون من أجل الحرّيّة ففقدوها كلّيّاً بعد عام 1979. هل يحصل التغيير الإيراني في سنة 2023؟ لا جواب عن مثل هذا السؤال. لكنّ كلّ ما يمكن قوله أنّ التغيير سيحصل في إيران. لا لشيء إلّا لأنّ الثورة الجديدة تشمل معظم الشعوب الإيرانيّة، وفي مقدَّمها الآذريون.
بالنسبة إلى إيران نفسها، وعد النظام الذي أسّسه آية الله الخميني مستنداً إلى نظريّة “الوليّ الفقيه”، التي تناسب شخصه والتي وضعها على مقاسه، بالاستغناء عن عائدات النفط والغاز. في سنة 2023، لا عائدات لإيران إلّا من النفط والغاز.
إذا كانت هناك بقايا اهتمام أميركي وأوروبي بإيران، فإنّ منبع هذا الاهتمام ما تمتلكه من نفط وغاز واحتمال مساهمتها في التخفيف من أزمة الطاقة العالميّة. تدخل في أساس هذه الأزمة الحربُ الروسيّة على أوكرانيا وما تسبّبت به من شبه انقطاع للغاز الروسي الذي كان يذهب إلى الدول الأوروبيّة ومن عقوبات أميركيّة وأوروبيّة على الاتّحاد الروسي. مثل هذا الاعتماد على إيران في موضوع النفط والغاز لم يعد وارداً، بعدما كشفت “الجمهوريّة الإسلاميّة”، في ضوء المغامرة الأوكرانيّة لفلاديمير بوتين، عمق العلاقة بينها وبين الرئيس الروسي. صارت، بعدما زوّدت الجيش الروسي بأسلحة مختلفة، بينها صواريخ ومسيَّرات، شريكاً في الحرب الروسيّة على أوكرانيا.
ليس معروفاً أين فائدة المواطن الإيراني في أن يكون بلده حليفاً لروسيا في عدوانها على بلد أوروبي مثل أوكرانيا ليس مسموحاً بسقوطه في يد فلاديمير بوتين لسبب في غاية البساطة. يعود السبب إلى أنّ سقوط أوكرانيا يعني سقوطاً لأوروبا كلّها تحت الابتزاز الروسي. هذا ما شدّد عليه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أمام البرلمان الأوروبي في بروكسيل. قال زيلينسكي موجّهاً كلامه إلى الأوروبيين إنّ “نمط حياتكم كلّه سيتغيّر” في حال انتصار بوتين في أوكرانيا. ليس وارداً سقوط أوكرانيا في يد روسيا. تعرف كلّ دولة من دول أوروبا ما الذي سيعنيه ذلك في المدى الطويل.
ارتدّت سياسة النظام الإيراني في الداخل والخارج عليه. لم تعد المسألة مسألة شرطة أخلاق، جرى حلّها نظريّاً، وما شابه ذلك
على الصعيد الإقليمي، يمكن توجيه سلسلة من الأسئلة إلى النظام الإيراني. تتعلّق هذه الأسئلة بما الذي يفعله في العراق وسوريا ولبنان واليمن؟ هناك جواب واحد عن كلّ هذه الأسئلة. لم تجلب “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى أيّ بلد من البلدان الأربعة المذكورة سوى الخراب والبؤس والتخلّف عبر ميليشيات مذهبيّة موّلتها ورعتها طوال سنوات. لا يختلف دور النظام الإيراني في المنطقة العربيّة في شيء عن دور الاتحاد السوفيتي في دول أوروبا الشرقيّة في مرحلة ما قبل سقوط جدار برلين في تشرين الثاني 1989. لا وجود لسبب يمنع سقوط النظام الإيراني مثلما سقط النظام السوفيتي.
ارتدّت سياسة النظام الإيراني في الداخل والخارج عليه. لم تعد المسألة مسألة شرطة أخلاق، جرى حلّها نظريّاً، وما شابه ذلك. المسألة هي: ماذا يفعل النظام الإيراني في إيران وخارج إيران؟ ما الفائدة من حصوله على سلاح نووي ما دام أكثر من نصف شعبه يعيش تحت خطّ الفقر؟
بعد مضيّ ستّة أشهر على انطلاق الثورة الشعبيّة الجديدة في إيران، من المفيد إيراد بعض الملاحظات. الملاحظة الأولى أنّ النظام يقدّم للمرّة الأولى منذ قام في عام 1979 تنازلات من نوع العفو الذي أصدره “المرشد” علي خامنئي أخيراً عن سجناء. مثل هذه التنازلات شكلية، لكنّها تعني الكثير. أوّل ما تعنيه أنّ النظام يسعى، عبر إعادة النظر في وضع الحجاب أو عدم وضعه، إلى التصالح مع شعبه. من الواضح أنّه يجهل أمراً في غاية الأهمّيّة. تجاوز الشعب الإيراني وتجاوزت المرأة الإيرانيّة مسألة الحجاب. الأمر يتعلّق بكرامة المواطن ورفضه البقاء في أسر نظام عزل بلداً ذا حضارة عظيمة، هي الحضارة الفارسيّة، عن كلّ ما هو حضاريّ في هذا العالم.
لن يستطيع النظام التصالح مع الشعب الإيراني. هذه مشكلته الكبرى. ليس أمامه سوى خيار الرحيل أو اعتماد الطريق الذي سار عليه النظام الأقلّويّ في سوريا الذي شنّ حرباً على شعبه ابتداء من آذار 2011 بسبب مطالبة هذا الشعب ببعضٍ من كرامته.
اختار النظام الإيراني السير على خطى النظام السوري الذي شنّ حرباً على شعبه من أجل البقاء في دمشق. كانت النتيجة تفتيت سوريا وتحويلها إلى بلد واقع تحت خمسة احتلالات. ليس ما يمنع أن يكون مصير إيران مثل مصير سوريا، على الرغم من كلّ التهديدات التي تصدر عن هذا المسؤول المدني أو العسكري أو ذاك.
إقرأ أيضاً: غموض خماسيّ باريس: الموقف الإيرانيّ لم ينضج بعد
كشف الزلزال عجز النظام السوري عن القيام بأيّ مبادرة إنسانيّة تجاه الشعب السوري. ليس لديه ما يقدّمه لشعبه غير القمع والموت والتشريد. ترمز زيارة إسماعيل قاآني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني لحلب، مباشرة بعد الزلزال، إلى واقع النظام الذي لم يعد أمامه من خيار غير الدوران في فلك “الجمهوريّة الإسلاميّة”. صار مصيره مرتبطاً بمصيرها.
ستكون الأشهر المقبلة مهمّة بالنسبة إلى مصير النظام الإيراني. سيعني أيّ تغيير يطرأ على تركيبته الكثير. سيعني أيضاً الكثير لبنانيّاً وسوريّاً وعراقيّاً ويمنيّاً، أي في أربعة بلدان عربيّة بات مستقبلها في مهبّ الريح…