إذا وضعت الولايات المتحدة لبنان في أولوياتها يمكنها تجنيبه المزيد من التدهور الذي لن يؤدّي إلّا إلى دفع ثمن باهظ في وقت لاحق. هذا ما يؤكّده رئيس “فريق العمل الأميركي الخاصّ بلبنان”*، السفير إدوارد غابرييل، في مقال نشرته مجلّة “ناشيونال إنترست” (The National Interest) الصادرة عن “مركز المصلحة الوطنية” الذي أسّسه الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون في عام 1994.
كتب الكاتب المقال بناءً على زيارته لبنان خلال شهر تشرين الأول الماضي، ولقائه قيادات سياسية وروحية وطالبية وعسكرية ودبلوماسية*، يرافقه وفد من موظّفي الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
في كانون الأوّل، بعد شهرين من الزيارة، بعث السيناتور بوب مينينديز (ديمقراطي من نيوجرسي) وجيم ريش (جمهوري من نيوجرسي) ورئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، رسالة مباشرة قويّة إلى القادة اللبنانيين: “أحرزوا تقدّماً أو واجهوا العقوبات”.
وبعد الزيارة وغيرها من الزيارات، خلص غابرييل إلى أنّ الولايات المتحدة “لا تزال تلعب دوراً قيادياً حيويّاً ليس فقط في مساعدة لبنان على التعافي من أزمته التاريخية، بل أيضاً في إعادة بناء أساساته ليصبح دولة ذات قيادة سياسية ومالية شفّافة وذات توجّه إصلاحي”. ودعا إدارة الرئيس جو بايدن إلى فرض عقوبات في حال عدم تجاوب السياسيين في لبنان مع هذه الدعوات.
معاناة اللبنانيين هي نتيجة مأساوية لفساد النخبة المالية والسياسية التي استفادت من “مخطّط بونزي” جعل عملة البلاد بلا قيمة
نقل الكاتب وجود “توافق ساحق في الآراء داخل مجتمع صانعي السياسات في الولايات المتحدة الأميركية، انعكس في رسالة أعضاء مجلس الشيوخ وفي مذكّرة كتبها عشرون خبيراً من روّاد السياسة الأميركية – اللبنانية، عن الحاجة إلى إطار دولي جديد لتحفيز حوكمة أفضل في لبنان، وعن ضرورة قيادة الولايات المتحدة مثل هذا الجهد الآن، لأنّ لبنان على حافة الانهيار”.
واعتبر أنّ “الأولويّة اليوم بالنسبة إلى القادة المنتخبين والأحزاب السياسية، هي انتخاب رئيس إصلاحي غير فاسد يلتزم تلبية احتياجات شعبه، وأن يتبع ذلك تشكيل حكومة فعّالة في الوقت المناسب”، داعياً إلى أن “تستخدم الولايات المتحدة جميع الأدوات المتاحة لها في هذا السبيل”.
الكهرباء وضياع الوقت ونفاده
اعتبر الكاتب – السياسي أنّ معاناة اللبنانيين هي نتيجة مأساوية لفساد النخبة المالية والسياسية التي استفادت من “مخطّط بونزي” جعل عملة البلاد بلا قيمة وأثار أزمة في القطاع المصرفي، ولمماطلة القادة اللبنانيين المنتخبين في تنفيذ الإصلاحات المنصوص عليها في اتفاقية صندوق النقد الدولي على مستوى الإدارة العامّة، التي تُعتبر ضرورية لإطلاق دعم الصندوق من أجل إعادة تأهيل اقتصاد البلاد. وأوضحت الولايات المتحدة أنّ حزمة صندوق النقد الدولي ضرورية لتحقيق الانتعاش الاجتماعي والاقتصادي للبنان ولدعم الولايات المتحدة والمجتمع الدولي له في المستقبل.
نتيجة هذه الأزمة يعيش تحت خط الفقر 80 في المئة من سكّان لبنان البالغ عددهم 6.5 ملايين مقيم ولاجئ. ويتمّ إهمال قطاعَيْ التعليم والرعاية الصحّية في البلاد على جميع المستويات، حتى إنّ أكبر جامعة في لبنان، الجامعة اللبنانية، تفتقر إلى أوراق لإجراء الامتحانات.
هكذا انجرف لبنان إلى مرتبة “الدولة الفاشلة”. وهناك “فرصة قويّة” لإقدام الولايات المتحدة على مهمّة مطوّلة وصعبة لحماية مصالحها في المنطقة ومواجهة التعدّيات المتزايدة من روسيا وإيران. فإصلاح الكهرباء في لبنان “يمكّن الولايات المتحدة من أن تبيّن قيادتها من خلال التأثير الملموس على ملايين اللبنانيين. ففي الوقت الحالي لا يحصل اللبنانيون إلا على ساعة أو ساعتين فقط من الكهرباء يوميّاً بسبب الفساد وعدم الكفاءة في القطاع. غياب هذا المصدر الحيويّ للطاقة يجعل الاستقرار الاقتصادي مستحيلاً ويفاقم تدهور حياة اللبنانيين”.
تطرّق المقال إلى صفقة الطاقة التي تنصّ على استيراد الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان، باعتبارها تشكّل “حلّاً رئيسياً تدعمه الولايات المتحدة”، وغاص في تفصيل “إنشاء هيئة ناظمة للكهرباء محايدة سياسياً”، واقترح برنامجاً مستداماً لاسترداد تكلفة الحلّ الكهربائي. وهذان شرطان من شروط البنك الدولي لدعم المشروع. ورأى أنّ الأمر يزداد أهميّة مع عرض إيران تقديم “هديّة” هي عبارة عن فيول يغذّي محطّات توليد الكهرباء اللبنانية.
الأولويّة اليوم بالنسبة إلى القادة المنتخبين والأحزاب السياسية، هي انتخاب رئيس إصلاحي غير فاسد يلتزم تلبية احتياجات شعبه، وأن يتبع ذلك تشكيل حكومة فعّالة في الوقت المناسب
دعم الجيش
على صعيد دعم الجيش، إحدى أقوى الركائز اللبنانية التي تدعمها الولايات المتحدة، بحزبَيْها الجمهوري والديمقراطي، ذكّر السفير الأميركي أنّ الأزمة الاقتصادية في لبنان تستنفد رواتب الجنود وأنّ الدعم المعيشي الذي تقدّمه بلاده لعائلات العسكريين في الجيش وقوى الأمن الداخلي في لبنان أمر بالغ الأهميّة يضاهي أهميّة تشجيع الولايات المتحدة حلفاءها على مواصلة دعمهم للبنان. وأضاف أنّ “استمرار الدعم للجيش اللبناني ضروري إذا أراد لبنان السيطرة على أمنه وحماية وحدة أراضيه ضدّ أعدائه وأعداء الولايات المتحدة”.
وفي ما يتعلّق باتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، رأى الكاتب أنّ بلاده أظهرت أنّ قيادتها لا غنى عنها في تيسير الاتفاقات الإقليمية الشرق أوسطية، وتجنيب المنطقة أخطار نشوب الحرب. لذا دعاها إلى “إظهار التصميم نفسه على قيادة وتوجيه المجتمع الدولي، وخاصة شركاءها في أوروبا والخليج، نحو الضغط على القادة في لبنان لانتخاب رئيس نظيف وقادر ومستعدّ لإجراء الإصلاحات اللازمة التي تلبّي احتياجات البلد”.
وختم غابرييل مقالته بالقول: “إذا تمكّنت الولايات المتحدة من إعطاء الأولويّة للبنان الآن، يمكنها تجنيبه المزيد من التدهور الذي لن يؤدّي إلّا إلى دفع ثمن باهظ لاحقاً”.
إقرأ أيضاً: تجسّس يُنعش صقور واشنطن..
*فريق العمل الأميركي الخاص بلبنان هو منظّمة غير ربحية تضمّ شخصيات بارزة من الأميركيين من أصل لبناني، هدفهم، حسب موقع الفريق، تعزيز العلاقة التاريخية بين الولايات المتحدة ولبنان بما يخدم مصلحة الولايات المتحدة ويعزّز الوحدة الوطنية والاستقلال والازدهار في لبنان ديمقراطي ومتعدّد الطوائف.
*إدوارد غابرييل هو رئيس “فريق العمل الأميركي الخاص بلبنان” وسفير الولايات المتحدة السابق في المغرب. وكان قد زار لبنان خلال شهر تشرين الأول الماضي مع وفد من موظّفي الكونغرس من الحزبين. التقى الوفد مسؤولين في مجالات التعليم والسياسة، وفي مقدَّمهم البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، مفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان، وزير الخارجية والمغتربين عبد الله بو حبيب، نائب رئيس المجلس النيابي إلياس بو صعب، ورؤساء اللجان المختلفة في البرلمان، قائد الجيش العماد جوزف عون. والتقى الوفد أيضاً رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط، ورئيس حزب القوّات اللبنانية سمير جعجع، والسفيرة الأميركية دوروثي شيا، وأعضاء هيئة التدريس والموظّفين في الجامعة الأميركية في بيروت، وطلّاباً في الجامعة اللبنانية الأميركية، ومسؤولي عدد من الوكالات التابعة للأمم المتحدة في لبنان.
لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا