إيران “العدوّ العاقل” بنظر الغرب

مدة القراءة 8 د

هل وصلت الجمهورية الإسلامية في إيران إلى مفترق طُرُق بعد 43 سنة على خلع الشاه، وتأسيس الحكم الإسلامي بمزيج من النظرية السنّيّة التقليدية والفلسفة الديمقراطية الغربية، أي بخلاف محدّدات الفقه الشيعي التقليدي بكلّ المعايير؟

يرى بعض معارضي النظام أنّ الحراك الشعبي غير المسبوق منذ أيلول الماضي يتميّز بخطورة مضاعفة مقارنة مع التحرّكات والاحتجاجات السابقة، منذ عام 2009. فبغضّ النظر عن مدى قدرة الاحتجاجات ذات الجذور الاقتصادية على تغيير المعادلة حالياً، لو حسبنا أنّ في إيران انقساماً طبقياً بين من يملك الثروة وكيفية إنفاقها وتوزيعها ومن لا يملك هذه القدرة، فإنّ أخطر تحرّكين حتى الآن كانا اللذين يمسّان صلب النظام وجوهره.

 

التحرّك الأوّل: الثورة الخضراء

تواجَه فيها معسكرا الإصلاحيّين والمحافظين في الشارع، بسبب الانتخابات الرئاسية عام 2009، وما قيل عن تزوير واسع قامت به الأجهزة الرسمية لضمان فوز الرئيس محمود أحمدي نجاد بولاية ثانية، وهو ما يعني إسقاط أبرز منافسيه من المرشّحين الإصلاحيين: مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

يرى بعض معارضي النظام أنّ الحراك الشعبي غير المسبوق منذ أيلول الماضي يتميّز بخطورة مضاعفة مقارنة مع التحرّكات والاحتجاجات السابقة، منذ عام 2009

الاعتراض الجماهيري الأوسع والأقوى في ذلك الحين كان أكبر تشكُّك في التزام الدولة بما تدّعيه من ديمقراطيّة طابعُها إسلامي، أي العودة إلى رأي الشعب في ما يتعلّق بتكوين السلطات التنفيذية، وتداول السلطة نظاميّاً ودوريّاً عبر صناديق الاقتراع، حتى لو كانت ولاية الفقيه تتربّع على رأس الهرم، وتتمتّع بصلاحيّات واسعة تتجاوز ما يحوزه رئيس الجمهورية المنتخَب، وحتى لو كانت الديمقراطية المطبّقة في الجمهورية الإسلامية هي ديمقراطية مقيّدة بشروط تجعل منها مختلفة نوعيّاً عما تُمليه الفلسفة الغربية للديمقراطية.

هزّ التشكُّك في الطابع الديمقراطي للنظام، ومن جهات محسوبة عليه، الصورة الداخلية والخارجية للجمهورية الإسلامية على حدّ سواء، وهو أمر ليس هيّناً. وإذا كان ممكناً لنظام في عزّ قوّته استيعاب الاعتراض الداخلي في ظروف إقليمية ودولية مؤاتية (التحالف الإيراني – الأميركي في أفغانستان والعراق منذ عام 2001، ثمّ الاستعدادات الجارية للاتفاق النووي)، فإنّ الضرر الخارجي كان محتّماً ولو كان ظرفيّاً. فمشهد الانتخاب يُدغدغ الغرب، ويُغريه بالتعاطف الخفيّ أو المفاضلة بين إيران والعالم العربي.

 

الإسلام السياسيّ السنّيّ

وفي مستوى آخر، برزت منذ أحداث 11 أيلول 2001 في المشهد الدولي العامّ مفاضلة أخرى لا تقلّ أهمّية. ففي إيران حركة إسلامية شيعية توصّلت إلى إقامة دولة حديثة بدستورها وأجهزتها، ولو أنّها أيديولوجيّة في العمق، وانتظمت في الدورات الانتخابية كأيّ دولة ديمقراطية. وفي المقلب الآخر بدت الحركات الإسلامية السنّيّة عموماً معادية جذرياً للنظام الدولي ولمبدأ الديمقراطية ولو شكليّة.

أمّا حركات الإسلام السياسي، ومع اعتمادها تكتيك الصناديق الانتخابية للوصول إلى الحكم، فقد بدت في حيرة واضطراب. فلم تستحكم فيها مبادئ الديمقراطية مع اعتراضات قويّة داخل صفوفها، أو أنّها لا تحمل رؤية سياسية واضحة، في الموقف من الديمقراطية ومن تداول السلطة، ومن تطبيق الشريعة. لذا وصل بعضها إلى الحكم لمدّة قصيرة عبر صناديق الاقتراع، أو عبر انقلاب عسكري، ثمّ جعل من الانتخابات وسيلة ديمومة لا تغيير.

أمّا الحركات الأخرى، الأكثر تشدّداً، فهي ترفض الديمقراطية قولاً واحداً. هنا لا يوجد فرق أيديولوجي حقيقي بين الحركات السنّيّة والشيعية. لكنّ إيران سبقت في اعتماد النظام المركّب، وفيه حاكمية شعبية مقيّدة ومشروطة، وحرّية ذات هامش محدّد. وهناك تجربة حزب الله في لبنان، وهي فريدة من بين الحركات الساعية إلى إقامة دولة إسلامية. الأولويّة عنده الآن للمقاومة، أي لضمان قدرته العسكرية والأمنيّة، وليس لفرض الأخلاقيات الإسلامية على المجتمع. لذا خفّف كثيراً من إمكانية الاحتكاك مع الحاضنة أو البيئة التي يعيش فيها.

اهتزاز النفوذ الأيديولوجي للدولة لدى شريحة واسعة من الشعب الإيراني، وهو ما قد يشطره إلى نصفين في أقلّ تقدير. ولكنّه انقسام عموديّ غالباً، وينطوي على فريقين غير متكافئين على نحوٍ صارخ

التحرّك الإيرانيّ الثاني

هو ما يُعرف حاليّاً بثورة الحجاب منذ أيلول العام الماضي، أي ثورة النساء الرافضات للحجاب المفروض من النظام الإيراني. لكنّ هذه الثورة استثارت كلّ المخزون الاعتراضي المتراكم منذ عقود.

خلْع الحجاب علناً هو أسلوب من أساليب الاعتراض، لكنّ الأسباب عميقة ترتبط بطبيعة النظام، وقدرته على استيعاب الأجيال الجديدة، وهي أكثر تأثّراً بثورة الاتصالات والمواصلات، وأكثر انخراطاً في بيئة وسائل التواصل الاجتماعي وطفرتها. وهذا يعني أموراً عدّة:

أبسطها اهتزاز النفوذ الأيديولوجي للدولة لدى شريحة واسعة من الشعب الإيراني، وهو ما قد يشطره إلى نصفين في أقلّ تقدير. ولكنّه انقسام عموديّ غالباً، وينطوي على فريقين غير متكافئين على نحوٍ صارخ. وحتى لو كان التغيير غير منظور في الأفق، لكنّه حراك خطير يمسّ جوهر النظام.

أمّا الأكثر خطورة فيتمثّل في أنّ هذا النظام بتركيبته الهجينة الجامعة بين التقليد والحداثة وتراتبيّة معقّدة من الهيئات المنتخبة وغير المنتخبة تجعل من غير الممكن للدولة بأجهزتها الرسمية من جيش وشرطة الانقلاب على مؤسّسة ولاية الفقيه وأذرعتها العسكرية والأمنيّة والاجتماعية والاقتصادية، قد وصل إلى نهاية صلاحيّته العمليّة.

وهذا مصداق ما جاء في رسالة الإصلاحي المعارض مير حسين موسوي التي يشير فيها إلى أنّ النظام الحالي لم يعد صالحاً، وينبغي تغييره لأنّه يعاني راهناً من أزمة شرعية، بسبب انحسار تأييد شرائح كبيرة من الشعب الإيراني على مختلف قوميّاته ومذاهبه. وهو في الأساس مهزوز الشرعية الدينية لأنّ نظرية ولاية الفقيه تسدّ ثغرة الاستنكاف الشيعي عن إقامة دولة في غياب الإمام المعصوم، وفق المذهب الشيعي الاثني عشري. وكأنّ الفكرة المبتدَعة، التي سَنَدت الشرعيّة الملتبِسة بالمشروعيّة الشعبية الملتبِسة أيضاً، قد استنفدت قوّتها بعد كلّ تلك السنوات، وحان الوقت لمراجعة عميقة ليس من المؤكّد هل الظروف مناسبة لها الآن داخلياً وخارجياً.

 

عدوّ عاقل؟

لقد نجحت الثورة الإسلامية (انقلاب إسلامي بالفارسيّة) في لحظة داخلية وخارجية فريدة من الصعب أن تتكرّر. فالشاه لم يخسر عرشه بسبب هزيمة في حرب، أو انهيار اقتصادي مُريع، أو انقلاب عسكري مفاجئ، بل إنّه أطلق الثورة البيضاء عام 1963، ومن أبرز معالمها:

– الإصلاح الزراعي، أي توزيع أراضي كبار الملّاك على صغار الفلاحين.

– تحديث البنى التحتية.

– إتاحة التعليم لكلّ الطبقات الاجتماعية.

– البدء بعلاقات خارجية شبه متوازنة بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي.

ومن مخلّفات تلك الثورة البيضاء أو أخطائها أنّها أتاحت ظهور ثورة اجتماعية دينية تصاعدت تدريجياً حتى مطلع عام 1978، فانفجرت أحداثها حتى إعلان الجيش الإيراني حياده في 11 شباط عام 1979. وقبل ذلك التاريخ بقليل، خرج الشاه من إيران بإيعاز من الولايات المتحدة، وهو شبيه بإيعازات أوباما إبّان انطلاق ثورات الربيع العربي عام 2011، من أجل تنحّي الرؤساء في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا.

ربّما لم يتوقّع الأميركيون وصول التيار الديني إلى السلطة في إيران آنذاك، مع وجود أحزاب ثورية أخرى، أكثر تنظيماً، مثل مجاهدي خلق. لكنّ النظام الجديد تمكّن مع كلّ شعاراته المعادية للغرب والشرق من لعب دور العدوّ العاقل. وهذا يكفيه ليتقي شرّ الخارج، ولا سيّما أنّ إيران بلد مهمّ جدّاً جيوسياسيّاً، إذ يقع على تقاطع الطرق بين الشرق الأوسط والخليج وآسيا الوسطى، وتؤدّي الكتلة الجغرافية الإيرانية دور القطع والوصل في آن، وهي ممر النفط، وهي أيضاً حاجز برّي لا يُستهان به، وهي دولة التوازنات العرقية فإذا انفرط عقدها، انفلتت الاضطرابات القومية في منطقة شاسعة لا مجال لضبطها.

إقرأ أيضاً: لماذا تغامر إيران بدعم بوتين ضدّ أوكرانيا؟

عرفت إيران مكانتها ودورها، فحافظ النظام على سياسة السير على الحبال المشدودة، بل وفق شعرة معاوية:

– إن أحسّت بالضغوط أتت برؤساء جمهورية معتدلين براغماتيين، كالرئيس هاشمي رفنسجاني بعد الحرب الطويلة مع العراق، والرئيس محمد خاتمي.

– إن أحسّت بالقوّة، أتت برئيس أيديولوجي مثل محمود أحمدي نجاد.

– لمّا شعرت بالغضب الداخلي بعد انتخابات مشكوك فيها، جاءت برئيس إصلاحي هو حسن روحاني.

لكن في الآونة الأخيرة بدأت إيران تتغيّر، أو تقرأ الأمور بطريقة مختلفة. فاستعداداً لمفاوضات العودة إلى الاتفاق النووي في أثناء ولاية الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن، جاءت إيران برئيس محافظ هو إبراهيم رئيسي، وكأنّها توسّمت الضعف في الإدارة الأميركية. لكنّ ما حدث أنّ الداخل اشتعل بسبب التشدّد الديني، والخارج بدأ يرى إيران بطريقة مختلفة.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…