قد لا يأخذ المراقب على محمل الجدّ تصريحات نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، ديمتري مدفيديف، التي هدّد فيها باستخدام السلاح النووي وتحويل كلّ الأراضي الخاضعة لكييف إلى رماد في حال تمّ استهداف شبه جزيرة القرم. فعلى الرغم من أنّ الرجل كان قد شغل منصبَيْ رئاستَيْ الجمهورية والحكومة (2008-2020) في لعبة تناوب على المقاعد مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لا يملك الآن صفة تقريرية ويكاد يكون موقعه شرفيّاً وناطقاً آخر باسم الكرملين.
وإذ لم تبدِ العواصم الغربية أيّ ردود فعل استثنائية على تهديدات مدفيديف التي تتوالى وتتكرّر، فذلك لأنّها ليست أهمّ من تلك التي أطلقها بوتين نفسه بهذا الصدد وما برح يردّدها بين الفينة والأخرى. لم ينتظر زعيم الكرملين أسابيع أو أشهراً، بل إنّه بعد 4 أيام فقط من بداية غزو أوكرانيا (24 شباط 2022)، أمَر في اجتماع نُقِل على الهواء مباشرة وزيرَ الدفاع، سيرغي شويغو، ورئيسَ هيئة الأركان العامّة للقوات المسلّحة، فاليري غيراسيموف، تحت سمع ونظر مشاهدي العالم بوضع أسلحة الردع الاستراتيجي، ومن بينها الأسلحة النووية، على أهبة الاستعداد.
تجاوز الحلف الغربي مذّاك الكثير من الخطوط الحمر التي حذّر منها الكرملين ولم يكن ليتخيّل اختراقها. وفّرت تلك التجاوزات الاستراتيجية في العرف الروسي المناسبة تلو المناسبة لتنفيذ بوتين تهديداته. تقوم عقيدة الردع الروسية على إمكانية اللجوء إلى السلاح النووي في حال تعرُّض الأراضي الروسيّة لـ “خطر وجودي”. غير أنّ تعريف وتحديد وجوديّة هذا الخطر يبقيان رهن التقويم الروسي الذي تحدّده أجندة ومزاج القيادة في موسكو.
الأرجح أنّ الأشهر الستّة المقبلة ستكون حاسمة في تقرير مصير الحرب، وفق ما أعلن مدير وكالة المخابرات المركزية CIA وليام بيرنز
خطأ الاشتباه الروسيّ
اشتبهت روسيا منذ سنوات بنزوع غربي – أوكراني إلى ضمّ أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي. تحدّثت موسكو عن بنى تحتيّة عسكرية مزعومة ينشرها الناتو فوق أراضي البلد المحاذي لروسيا. ثبت لاحقاً غياب تلك البنى ورفضٌ ضمنيّ وبعضُه معلن لبعض دول الناتو لضمّ أوكرانيا إلى ناديهم. ومع ذلك، غرفت روسيا ورئيسها كثيراً من هذه الحجج لإقامة مطالعة ألقاها بوتين عشيّة الغزو يستكثر فيها على أوكرانيا أن تكون بلداً، واصفاً “الحالة” بأنّها خطيئة ارتكبها لينين وخروتشوف وستالين.
لكن ثبت لاحقاً أنّ لبّ القصّة لا يتعلّق بالشبهة الأطلسية لأوكرانيا. كانت موسكو قد اعتبرت أنّ أمن روسيا الاستراتيجي مهدَّد بسبب ما ستكون عليه إطلالة الناتو من أوكرانيا المحاذية لروسيا. وحين تقدّمت فنلندا (والسويد) بطلب لعضوية الأطلسي نُقل عن بوتين قوله إنّ الأمر لا يهمّ، علماً أنّ الحدود الروسيّة الفنلنديّة التي يُفترض أن تطلّ منها أخطار الناتو تبلغ نحو 1,300 كيلومتر.
بمعنى آخر، توجد أسباب عقائدية روسيّة، لطالما أثارها المفكّر الروسي ألكسندر دوغين وأمثاله (يسمّيهم الفيلسوف السلوفاكي سلافوي جيجك “فلاسفة القصر”)، لاعتبار أنّ أوكرانيا جزء من الإمبراطورية الروسيّة وأنّ استقلالها عن روسيا الأمّ عام 1991 إثر زوال الاتحاد السوفيتي كان زلّة وجب تصحيحها. ولئن كان دوغين لا يدعو في عقائده إلى إسقاط كلّ أوكرانيا، فإنّه يوحي بحلّ يعتبره “كرماً” من روسيا يقضي بالاكتفاء بضمّ بعض المناطق في الشرق تشبه تلك الأقاليم الأربعة التي سنّت موسكو قانوناً قضى بضمّها في 30 أيلول الماضي وجعْلها جزءاً من الأراضي الروسية. لكنّ الرجل ونظراءه لا يجادلون في روسيّة القرم ونهائيّة انتمائها إلى روسيا على نحو يكاد يكون لاهوتيّاً كنسيّاً.
روسيا ووجدانها القوميّ والدينيّ
إذاً ما لا يحتمل تلاعباً وتنازلاً ومساومةً يكمن في نهائيّة “عودة” شبه جزيرة القرم إلى “حضن الوطن”. فالمنطقة بالوجدانين القومي والديني في روسيا هي أصل في الحكاية الروسيّة غرف منه بوتين حججاً ومبرّرات لغزو شبه الجزيرة عام 2014 وإعلان ضمّها واعتبار الأمر ناجزاً. وفيما لا تحظى “العملية الخاصّة” التي شنّها بوتين ضدّ أوكرانيا العام الماضي بتأييد شعبي روسي حقيقي وحاضن، فقد حظيت عمليّة القرم قبل 9 سنوات بحاضنة روسية شعبية أرثوذكسية صادقة.
ومع ذلك يتشكّك متخصّصون في الشأن الروسي في صدقيّة الشرعية الشعبية التي أيّدت بوتين في القرم، ويعزون الالتفاف المجتمعي إلى خفوت ردّ الفعل الدولي واكتفاء العواصم الغربية بالإدانة الروتينية وفرض عقوبات شكليّة، إضافة إلى استقبال برلين (2016) وباريس (2017) لبوتين بترحاب كبير لاحقاً، ثمّ لقاء الزعيم الروسي بنظيرَيْه الأميركيَّين، دونالد ترامب في هلسنكي (2018) وجو بايدن في جنيف (2021).
لكن باستثناء سوريا وكوريا الشمالية وبيلاروسيا، لم يعترف العالم، ومن ضمنه دول حليفة وصديقة لروسيا، بضمّ القرم. والمفارقة أنّ روسيا أقرّت في البيان المشترك العملاق (5 آلاف كلمة) الذي صدر في 4 شباط 2021 لمناسبة زيارة بوتين للصين على هامش الألعاب الأولمبية الشتوية، أنّ تايوان هي جزء من الصين الواحدة، فيما لم تعترف الصين بالمقابل أبداً بأنّ القرم جزء من روسيا.
وفق ذلك العرض في التاريخ ووقائع القانون والسياسة يجب الإنصات جيّداً إلى ما قاله مدفيديف. صحيح أنّ الرجل أعاد التذكير بعقيدة الردع الروسية التقليدية التي تربط الردع النووي بوجود أخطار تهدّد روسيا، وصحيح أنّه ذكّر أنّ القرم هي جزء من روسيا، بما يجعلها خاضعة للعقيدة العتيدة، غير أنّ مدفيديف لم يهدّد بعظائم الأمور إذا ما تعرّضت الأقاليم الأربعة التي ضمّتها روسيا حديثاً لأخطار لم تتوقّف، وهي التي تتعرّض يوميّاً للعمليات العسكرية التي تشنّها القوات الأوكرانية.
يكرّر الخطاب الأوكراني الذي ما فتئ يردّده الرئيس فولوديمير زيلينسكي أنّ القوات الأوكرانية ستقاتل حتى تحرير كامل الأراضي الأوكرانية المحتلّة، ومن بينها القرم، وإعادة الخطوط إلى ما كانت عليه عام 1991، أي حدود الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي. بالمقابل باتت موسكو أكثر اعترافاً بأنّ موجات الأسلحة المتقدّمة الغربية التي تدفّقت وستتدفّق لدعم الجيش الأوكراني قد غيّرت وستغيّر وجوه المعركة، وأنّ تلك الصواريخ النوعيّة البعيدة المدى ستستهدف مواقع الجيش الروسي الخلفيّة ومواقعه البعيدة عن خطوط الجبهات، ولا سيّما تلك التي في قلب القرم.
روسيا: إيّاكم والقرم
الأرجح أنّ الأشهر الستّة المقبلة ستكون حاسمة في تقرير مصير الحرب، وفق ما أعلن مدير وكالة المخابرات المركزية CIA وليام بيرنز. والأرجح أيضاً أنّ الأسلحة الغربية، وإن اشتُرط أن لا تستهدف الأراضي الروسيّة، فإنّها في عرف القانون الدولي قد تستهدف القرم بصفتها منطقة لم يعترف العالم بروسيّتها وسيادة موسكو عليها. غير أنّ أمر التفكير بالنيل من الإنجاز الروسي في القرم استدعى إنذاراً روسيّاً يُفترض أن يؤخذ هذه المرّة على محمل الجدّ. فإذا ما كان تكرار تهديد روسيا باستخدام أسلحة استراتيجية بات رتيباً، فإنّ مدفيديف في تخصيص القرم فقط بهذا التهديد وجّه رسالة تقول: قد نناقش مصير أيّ أراضٍ ومناطق وأقاليم من أجل تسوية ما في وقت ما إلا القرم التي يجوز من أجلها شَهْر كلّ أسلحة الدمار الشامل.
إقرأ أيضاً: الصراع السياسيّ والخطر النوويّ
تمثّل شبه الجزيرة منفذ روسيا الوحيد على المياه الدافئة. خاضت روسيا حروباً كثيرة قبل أن تتمكّن في عام 1783 من ضمّها إلى روسيا في عهد الإمبراطورة كاثرين، ثمّ تأسيس القاعدة البحرية الروسية في البحر الأسود في سيفاستوبول. وفي وعيد مدفيديف اعترافٌ بأنّ روسيا قد خسرت الحرب بالأسلحة التقليدية وأن لا خيار أمامها لتجنّب المذلّة في القرم إلا خيار الدمار العدميّ. وإذا ما تأمّل استراتيجيّو واشنطن والناتو خرائط الحرب وخطوط السلم، فإنّه حريّ بهم استنتاج بداية نزوع روسيّ نحو التسوية الصعبة حتى لو جاء مدفيديف يضع لها قواعد الحلال وموانع الحرام.
*كاتب لبناني مقيم في لندن
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@