إسرائيل في الخرطوم… أولويّات سودانيّة!

مدة القراءة 5 د

سبق لرئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان أن التقى بنيامين نتانياهو في أوغندا في عام 2020. كان “بيبي” وقتذاك رئيساً للحكومة الإسرائيلية. اندرج اللقاء في سياق أجواء عربية عامّة وُقّعت خلالها اتّفاقات أبراهام بين إسرائيل ودول عربيّة عدّة.

منذ إطاحة نظام عمر حسن البشير في عام 2019، سار السودان في خطّين متوازيَين. الأوّل محاولة ترتيب أوضاعه الداخلية عبر إيجاد صيغة تفاهم بين العسكر والمدنيين، والآخر التطبيع مع إسرائيل. يندرج التطبيع في إطار أوسع يتمثّل في عودة السودان إلى أن يكون بلداً طبيعياً يقيم علاقات طيّبة مع الولايات المتحدة بدل أن يكون بلداً منبوذاً ومتذبذباً كما كانت عليه الحال في عهد البشير الذي امتدّ طوال ثلاثة عقود كاملة. مارس البشير، من أجل البقاء في السلطة، كلّ أنواع الألاعيب. احتضن الإرهابي “كارلوس” في مرحلة معيّنة، ثمّ سلّمه إلى فرنسا. وفّر مأوى لإرهابي آخر هو أسامة بن لادن، أحد مؤسّسي تنظيم “القاعدة”، قبل أن يبعده إلى أفغانستان حيث عاش في ظلّ “طالبان” وخطّط لـ”غزوتَي نيويورك وواشنطن” في عام 2001.

سبق لرئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبدالفتاح البرهان أن التقى بنيامين نتانياهو في أوغندا في عام 2020

من أجل البقاء في السلطة أيضاً لم يفعل البشير شيئاً من أجل الحؤول دون تقسيم السودان بعدما عجز عن التعاطي بطريقة طبيعيّة مع الجنوب وإقامة نظام بعيد عن العِقَد التي تتحكّم بتنظيم الإخوان المسلمين وما تفرّع عنه من تنظيمات لا تقلّ تخلّفاً عنه.

مع عودة “بيبي” إلى موقع رئيس الحكومة في إسرائيل، ذهب إيلي كوهين وزير الخارجية في حكومته إلى الخرطوم. تستهدف الزيارة في ما يبدو وضع اللمسات الأخيرة على تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل في وقت يبذل فيه البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد قوّة التدخّل السريع، جهوداً من أجل إيجاد صيغة تفاهم تؤدّي إلى تشكيل حكومة مدنيّة بعيداً عن مزايدات عدد لا بأس به من السياسيّين التقليديين. هؤلاء يجهلون أنّ العسكر في السودان لعبوا دوراً مهمّاً منذ استقلال البلد في عام 1956، وأنّ دور هؤلاء ما كان ممكناً لولا فشل الأحزاب السودانيّة، كلّ الأحزاب، في كلّ مرّة أتيحت لها فرصة تشكيل حكومة، في أن تنهض بالبلد وتؤسّس لنظام ديمقراطي حقيقي.

في النهاية، لا يمكن تجاهل أنّ فشل المدنيين، مباشرة بعد الاستقلال، كان وراء تولّي العسكري إبراهيم عبود السلطة في عام 1958، قبل أن ينقلب عليه الشارع في عام 1964 ويعيد العسكر إلى ثكناتهم. وقتذاك، رفع المتظاهرون شعاراً في غاية البساطة هو “إلى الثكنات يا حشرات”. كان ذلك كافياً كي يسقط النظام العسكري ويقوم نظام مدني ما لبث أن سقط في عام 1969 على يد مجموعة عسكرية قادها جعفر النميري.

في النهاية أيضاً، ما كان لنظام عمر حسن البشير، بتركته الثقيلة، أن يرحل لولا مجموعة من العسكريين انقلبت عليه بعدما أظهر السودانيون تصميماً على مواجهته والبقاء في الشارع. البشير موجود حالياً في السجن، أي في المكان الذي يستحقّه بعدما استنفد كلّ أوراقه، بما في ذلك لعب الورقة التركيّة أحياناً والورقة الإيرانيّة في أحيان أخرى. من يتذكّر أنّ السودان كان ممرّاً لأسلحة مصدرها إيران يجري تفريغها في أحد موانئه ثمّ نقلها إلى مصر ومنها إلى قطاع غزّة كي تستخدمها “حماس”. كان ذلك في أيّام حسني مبارك الذي افتقد نظامه، من بين ما افتقده، القدرة على التعاطي الفعّال مع نظام مثل نظام البشير. لم يكن ممكناً تفادي ارتكاب البشير لمزيد من الحماقات لولا القرار الذي اتّخذته مجموعة من الضبّاط قرّرت الانتهاء منه.
تغيّر العالم كثيراً. ثمّة حاجة في كلّ وقت إلى من يتّخذ المبادرة في السودان. يعرف العسكريون، في مقدَّمهم عبد الفتاح البرهان، أنّ رفع السودان عن قائمة الإرهاب لم يكن ممكناً من دون انفتاح على إسرائيل. هذا واقع لا يمكن تجاهله في ظلّ التوازنات الإقليميّة والدوليّة، وفي ظلّ حاجة السودان إلى إعادة تأهيل نفسه على كلّ المستويات.

مع عودة “بيبي” إلى موقع رئيس الحكومة في إسرائيل، ذهب إيلي كوهين وزير الخارجية في حكومته إلى الخرطوم

كانت زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي للخرطوم مفاجأة، خصوصاً أنّها جاءت في ظلّ توتّر غير مسبوق بين إسرائيل والفلسطينيين في الضفّة الغربيّة. يعني ذلك أنّ السودان الذي يواجه تحدّيات كبيرة لا يفكّر حالياً إلّا في حماية مصالحه بعيداً عمّا يدور في الضفّة الغربيّة أو قطاع غزّة. لدى السودان أولويّاته التي لا علاقة لها بفلسطين.

كان طبيعياً لجوء منظمات فلسطينيّة، لم تعد من قيمة تُذكر لها، من نوع “الجبهة الديمقراطيّة لتحرير فلسطين”، وهي منظّمة ما زالت تعيش من سرقة مصرف في بيروت في عام 1976، إلى التنديد بالخطوة السودانيّة. يعكس مثل هذا التنديد الصادر عن منظّمات فلسطينيّة جهلاً ليس بعده جهل وقلّة أخلاق لا مثيل لها.

ترفض هذه المنظّمات الاعتراف بما ارتكبه النظام السوري الذي تعيش في كنفه في حقّ الفلسطينيين. حتّى إنّها ترفض الاعتراف بما فعله النظام السوري بسكّان مخيّم اليرموك الفلسطيني القريب من دمشق في تاريخ لم يمرّ عليه الزمن.

إقرأ أيضاً: التنسيق الأمني… شعرة معاوية وشعرة عباس

قد لا يكون توقيت زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي للسودان موفّقاً، لكنّ ما لا مفرّ من الاعتراف به أنّ الزيارة كانت ذات طابع ملحّ فرضته، على الأرجح، حاجة السودان إلى إعادة ترتيب أوضاعه الداخليّة من جهة، وإيجاد موقع لدولته المطلّة على البحر الأحمر من جهة أخرى. من لاءات قمّة الخرطوم (لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات)، في عام 1967، إلى زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي للعاصمة السودانيّة في عام 2023، مسافة طويلة، مسافة تكشف طبيعة التحوّلات في المنطقة والعالم.
كلّ ما في الأمر أنّ السودان ما زال يبحث عن مكان لنفسه في ظلّ هذه التحوّلات التي بدأت بزيارة رئيس مصر أنور السادات للقدس وخطابه في الكنيست في تشرين الثاني 1977. ذهب السادات إلى القدس بسبب أولويّات مصريّة. أتى وزير الخارجيّة الإسرائيلي إلى الخرطوم بسبب أولويّات سودانيّة!

مواضيع ذات صلة

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…

أكراد سوريا في بحث جديد… عن دور ومكان

لم يعرف الأكراد منذ أن وُجِدوا الاستقرار في كيان مستقلّ. لم يُنصفهم التاريخ، ولعنتهم الجغرافيا، وخانتهم التسويات الكبرى، وخذلتهم حركتهم القومية مرّات ومرّات، بقدر ما…