تعاملت القيادات العسكرية والسياسية الإيرانية مع الضربات الجوّية على منشآتها العسكرية في أصفهان وتبريز وهمدان نهاية الأسبوع المنصرم بقدر كبير من التجاهل والإنكار على الرغم من أهميّة المواقع المستهدَفة والمؤشّرات الخطيرة التي تؤكّد انطلاق المسيّرات من مناطق قريبة من المنشآت، وعلى الرغم من الإعلان الأميركي الصريح عن مسؤولية إسرائيل عن التنفيذ.
بالتزامن تعرّضت قوافل عسكرية للحرس الثوري لهجمات مدمّرة على الحدود السورية العراقية، واقتصر ردّ فعل الحرس على إخلاء مواقعه في منطقة البوكمال حيث المعبر الوحيد والشريان اللوجستي الرئيس للميليشيات الإيرانية في لبنان وسوريا.
تسعى طهران إلى الخروج من عزلتها عبر البحث عن ميادين توتّر جديدة تسمح لها بالاشتباك مع القوى الدولية وتوجيه رسائل تعيدها إلى دوائر الاهتمام والشراكات الدولية
إنكار واستيعاب وتجاهل
تفترض حال إنكار إيران ما جرى وانسحاب حرسها الهادئ من البوكمال أنّها تعيد تقدير موقفها في ضوء ما استفادته من دروس مغامراتها، وما تفرضه حراجة الأجندة الأميركية في أوكرانيا والتزامها استقرار إسرائيل الداخلي أو على حدودها الشمالية. وفي هذا الإطار يمكن فهم موقف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الاستيعابي حيال الاشتباكات التي شهدتها القدس خلال زيارته الأخيرة للقاهرة وإسرائيل ورام الله، حين عبّر عن تجاهله أيّ دور لإيران في كلّ ما جرى، وعن عدم رغبته في قراءة الرسائل الإيرانية.
ابتلعت طهران الوضع المتفجّر في داخلها وفي سوريا، وقرأت التجاهل الأميركي بعناية، فاستبدلت ردّ فعلها الأمني المفترض ضدّ الولايات المتّحدة أو إسرائيل بمناورة دبلوماسية إفريقية علّها تفضي إلى تعويض معنوي أو إلى اشتباك من نوع جديد.
وكان وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان قد بدأ، بعد يومين على الضربات، زيارة رسمية لموريتانيا على رأس وفد سياسي رفيع المستوى، فالتقى الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني ووزير الخارجية محمد سالم ولد مرزوك. وهذا تحت عنوان فضفاض: دعم موريتانيا في مكافحة الإرهاب، علماً أنّ هذه الزيارة أتت بعد أسبوعين من رسالة خطّية وجّهها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى نظيره الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني يدعوه فيها إلى زيارة طهران. وهي ثاني رسالة يتلقّاها الغزواني من رئيسي في غضون عام. فهو تلقّى رسالة مماثلة في شباط من العام الماضي.
إيران في الساحل الإفريقيّ
تسعى طهران إلى الخروج من عزلتها عبر البحث عن ميادين توتّر جديدة تسمح لها بالاشتباك مع القوى الدولية وتوجيه رسائل تعيدها إلى دوائر الاهتمام والشراكات الدولية. وفي هذا الإطار يمكن إدراج زيارة عبد اللهيان لموريتانيا واعتبارها حلقة إضافية في سلسلة زيارات مماثلة قام بها خلال العام المنصرم نائب وزير الخارجية للشؤون السياسية علي باقري كني لعواصم مجموعة دول الساحل الخمس: موريتانيا والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد، إضافة إلى مالي.
ابتلعت طهران الوضع المتفجّر في داخلها وفي سوريا، وقرأت التجاهل الأميركي بعناية، فاستبدلت ردّ فعلها الأمني المفترض ضدّ الولايات المتّحدة أو إسرائيل بمناورة دبلوماسية إفريقية
كان واضحاً تجاوب دول الساحل مع التدخّل الإيراني في تصريحات رئيس وزراء بوركينا فاسو، الذي قابل الدعم الإيراني بالمعدّات العسكرية لـ”محاربة الإرهاب”، بمنتجات تقدّمها دولته لإيران مثل القطن والذهب والماشية، وفي زيارة باقري كني للعاصمة الماليّة باماكو نهاية كانون الأول الماضي التي وُصفت بأنّها جزء من “مسار ديناميكي لشراكة تعزّز القدرات الدفاعية والأمنيّة” بالمعدّات العسكرية والتدريب وتُطلق محور باماكو – طهران.
تساعد الواقعية في قراءة التجربة الإيرانية في ضوء سياستها في الشرق الأوسط، على تقديم تفسير لِما تقوم به طهران في إفريقيا: استغلالها عزلة “الانقلابيين” التي فرضها استيلاء العسكر على السلطة في “مجموعة دول الساحل” ورفض تنظيم انتخابات والانتقال الديمقراطي للحكم في الآجال التي حدّدها الاتّحاد الإفريقي والمجتمع الدولي. وهذا ليس سوى تكرار لمحاولات إيرانية سابقة هدفت إلى التموضع في غرب إفريقيا في ظلّ صراع دولي محتدم تشهده الساحة الإفريقية بعد تراجع النفوذ الفرنسي وانسحاب القوات الفرنسية من مالي، وانسحابها المرتقب من بوركينا فاسو في غضون شهر. هذا إضافة إلى توجّه عدد من دول الساحل إلى التعاون مع روسيا في إطار سياسات جديدة لتنويع الشراكات الدولية لمحاربة الإرهاب.
الهلال الإفريقيّ
تستعيد طهران، بمناورتها الإفريقية لتطوير وجودها في منطقة الساحل، ما بدأته مع إريتريا في عام 2008 حين نجحت في إقناع رئيسها أسياس أفورقي بإبرام اتّفاقية تسمح بإقامة قاعدة عسكرية في ميناء عصب على البحر الأحمر، مقابل الدعم الإيراني للنظام الإريتري عسكرياً واقتصادياً بطرق رسمية وغير رسمية.
أسّس هذا الوجود لاحقاً لتدريب الحوثيين ونقل الأسلحة إلى اليمن. وتتيح عسكرة نقاط التفتيش على باب المندب اليوم لإيران أن تحظى بموطئ قدم على المحيط الأطلسي عبر موريتانيا ومالي وباستحداث بؤر للتوتّر والإرهاب على الحدود الجنوبية لكلّ من المغرب والجزائر وليبيا.
إقرأ أيضاً: إيران هدّدت أوروبا.. فرضخ لها “الإتحاد”
فهل تحاول إيران من خلال نشاطها الإفريقيّ التمادي في حال الإنكار للتقليل من وطأة خسائرها، أم اختارت مناوشة فرنسا والغرب بهدف استعادة موقعها المتداعي في المشرق العربي من خلال الذهاب إلى “هلال إفريقي” يكون بديلاً من “الهلال الشيعي”، الذي قالت جريدة “لوموند” الفرنسية قبل يومين إنّه “على طريق الانهيار”؟