في ليبيا حكومتان: واحدة برئاسة عبد الحميد دبيبة تقول الولايات المتحدة وأوروبا إنّها الحكومة المعترَف بها دوليّاً، وثانية برئاسة فتحي باشاغا يقول البرلمان إنّها الحكومة الشرعية التي انتخبها البرلمان.
النفط والسلاح
داخل حكومة دبيبة تدور صراعات لا تقلّ عن تلك التي بين حكومته وحكومة باشاغا، وفي مطلع الشهر الجاري (شباط 2023) وقعت معارك بين مجموعات مسلّحة في محيط مطار طرابلس الدولي. المدهش في هذه المعارك أنّها نشبت بين مجموعات تابعة لوزارتَيْ الداخلية والدفاع داخل حكومة دبيبة!
لكنّ الأكثر إثارة للدهشة هو ما حدث حين قامت حكومة دبيبة بتوقيع اتفاق مع الحكومة الإيطالية بشأن نقل الغاز الليبي إلى إيطاليا، وهو عبارة عن صفقة عملاقة تقدّر بأكثر من 8 مليارات دولار. ولا يكمن مصدر الدهشة هنا في اعتراض البرلمان وحكومة باشاغا ومجلس القبائل والعديد من المؤسّسات الليبية، بل في اعتراض وزير النفط الليبي في حكومة دبيبة نفسها.
هكذا وفي يوم واحد تقريباً، كانت مجموعات مسلّحة تابعة لوزارة الداخلية تقاتل مجموعات تابعة لوزارة الدفاع، وكان رئيس مؤسّسة النفط يعمل ضدّ وزير النفط، وكلّهم في حكومة واحدة!
تحتاج ليبيا إلى أن تكون لها أمام العالم جهة شرعيّة واحدة وسلطة واحدة وحكومة واحدة يمكنها إدارة السياسات في الداخل وعقد الاتفاقات في الخارج
جورجيا ميلوني في طرابلس
قامت رئيسة الحكومة الإيطالية جورجيا ميلوني بزيارة طرابلس، وبعد لقائها عبد الحميد دبيبة جرى إعلان أكبر صفقة غاز في تاريخ البلدين يتمّ بموجبها نقل الغاز الليبي إلى إيطاليا عبر خطّ “غرين ستريم” ويجري تصدير قرابة 1 مليار قدم مكعّب من الغاز يوميّاً إلى إيطاليا. وتبلغ قيمة الصفقة 8 مليارات دولار، وهو ما يُعدّ أهمّ استثمار في قطاع الطاقة الليبي منذ ربع قرن.
من جهتها، اعتبرت السيّدة ميلوني إعلان الصفقة انتصاراً كبيراً لسياسات إدارة أزمة الطاقة في إيطاليا وأوروبا. في حين أعلنت حكومة دبيبة أنّ الاتفاق فرصة كبيرة لليبيا، وأنّ حجم الاستثمار الكبير سيؤدّي إلى صافي إيرادات للدولة يزيد على 13 مليار دولار، وحسب تقديرات اقتصادية أخرى سيصل صافي إيرادات الدولة بموجب هذا الاتفاق إلى 15 مليار دولار.
الاعتراض على الاتّفاق
أمّا حكومة باشاغا فقد اعترضت على الاتفاق باعتباره اتفاقاً أجنبيّاً مع حكومة غير شرعية انتهت سلطاتها رسمياً. وهاجم البرلمان الليبي حكومة دبيبة التي لا يجوز لها توقيع أيّة اتفاقات دولية، وبدوره أعلن مجلس القبائل الليبي رفضه للاتفاق “غير القانوني”، وتوعّد بإغلاق حقول وموانئ النفط، ووقف خطّ إمداد الغاز إلى إيطاليا.
لم يقتصر الاعتراض على حكومة باشاغا والبرلمان الليبي، بل كان الاعتراض من قلب حكومة دبيبة، إذ هاجم وزير النفط الليبي الاتفاق لأنّ من قام بالتوقيع هو رئيس “المؤسّسة الوطنية للنفط” فيما يقضي القانون بأن يكون إبرام العقد مع وزارة النفط لا مؤسّسة النفط.
كان المثير في هذه الصفقة هو عدم علم وزير النفط في حكومة دبيبة بأيّة معلومات عن الاتفاق الليبي الإيطالي، وأنّه لم يعرف ما حدث إلا من وسائل الإعلام شأنه في ذلك شأن أيّ مشاهد للتلفاز!
من سيربح الـ15 مليار دولار؟
ذهب النقاش الليبي إلى ما هو أهمّ من توقيع الاتفاق، إذ طرح ساسة وأعضاء برلمان وإعلاميون السؤال الملياريّ الأهمّ: أين ستذهب هذه الإيرادات الصافية التي تقارب 15 مليار دولار؟ ثمّ زاد بعضهم: وأين ذهبت إيرادات خطّ الغاز الليبي الإيطالي “غرين ستريم” منذ عام 2011؟ وحسب أحد النوّاب فقد استمرّ هذا الخطّ في ضخّ الغاز إلى روما منذ سقوط القذّافي، ولا يعرف الشعب شيئاً عن مصير هذه الأموال، على الرغم من أنّ الخطّ لم يتوقّف دقيقة واحدة منذ 12 سنة حتّى الآن.
السيسي يستقبل بلينكن
في مطلع عام 2023 قام مدير الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز بزيارة ليبيا والتقى عبد الحميد دبيبة في الغرب وخليفة حفتر في الشرق، وقال إنّ الانتخابات هي الحلّ.
وقبل أيام استقبل الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، وجرى التأكيد من جديد أنّ الانتخابات هي الحلّ.
استمرار ليبيا من دون انتخابات هو الخيار الأسوأ، فالبلاد تصير إلى تقسيم بطيء بين الشرق والغرب، وإذا تمّ بناء خريطة القوى واعتاد هذا الواقعَ المجتمعُ، ولا سيّما الأجيال الجديدة، فستكون وحدة الدولة في خطر حقيقي حتى من دون تدخّل خارجي.
تحتاج ليبيا إلى أن تكون لها أمام العالم جهة شرعيّة واحدة وسلطة واحدة وحكومة واحدة يمكنها إدارة السياسات في الداخل وعقد الاتفاقات في الخارج.
سلطة مركزية سيّئة أفضل من عدّة سُلطات ناجحة، فإذا كان المشهد الليبي خالياً من السلطات الناجحة من الأساس، فإنّ أيّة سلطة ستكون أفضل
متطرّفون منافقون
لا يعني الاستمرارُ الاستقرارَ، فالميليشيات في الغرب ليست موحّدة وراء دبيبة، بل هي متصارعة فيما بينها، وإذا كانت اليوم مع دبيبة، فستكون غداً عليه إن لم تحصل على المزيد من المال غير الشرعيّ.
الميليشيات لا ولاء لها، والغطاء الإسلامي أداة لجلب المزيد من المال، وحين وضع عبد الحميد دبيبة يده على ظهر السيّدة ميلوني، لم يتحدّث أحد من هؤلاء المتطرّفين.
قال أحد أعضاء البرلمان الليبي إنّ وضع دبيبة يده على ظهر ميلوني قد وضع دار إفتاء الغرياني “الإخوانية” في مأزق شديد وكرب عظيم، وإنّ الصورة التي التقطتها الصحافة تفضح جماعة الغرياني وكلّ تيّار الإسلام السياسي، ذلك أنّ صمتهم يعني مباركتهم.
ملاحظة النائب الليبي ليست مفاجأة، فالشيء الوحيد الذي يدفع تيّار الإسلام السياسي إلى شنّ حملات الهجوم وتدمير صورة الخصوم وإعلان القتال وإسالة الدماء هو إغلاق خطوط إمداد الدولار، أو استقبال مكالمة من الخارج.
الانتخابات هي الحلّ
لا حلّ في ليبيا سوى إجراء الانتخابات، وأيّاً كانت السلطة المقبلة، فإنّ وجود سلطة أفضل من غيابها، ووجود سلطة موحّدة وإعادة بناء المعارضة السياسية بناءً على ذلك يجعلان من الخريطة السياسية أفضل حالاً من النثريّات والمنمنمات القائمة.
إقرأ أيضاً: الشيخ زايد والعروبة الثقافيّة.. أمّ كلثوم في أبوظبي
إنّ سلطة مركزية سيّئة أفضل من عدّة سُلطات ناجحة، فإذا كان المشهد الليبي خالياً من السلطات الناجحة من الأساس، فإنّ أيّة سلطة ستكون أفضل.
الانتخابات هي الحلّ.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@
