نعم العالم يتدخّل في لبنان: هل هذا خبر جيّد؟

مدة القراءة 6 د

دعونا نقرّ جميعاً أنّ التدخّل الخارجي بات حقيقياً وواقعياً وعلنيّاً، وسيعمل على التأثير على مسارات الأزمة في لبنان. ولئن استسلم لبنان لضغوط دولية، وخصوصاً أميركية – فرنسية، لإبرام اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، فإنّ تدافع الوفود القضائية الأوروبية التي نشطت في ملفَّيْ المصارف وانفجار مرفأ بيروت يعكس مرحلة جديدة من مراحل تدخّل خارجي سيأخذ مضامين وأشكالاً متعدّدة.

سيصعب فصل استئناف قاضي التحقيق في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار تحقيقاته عن لقاء جمعه مع وفد قضائي فرنسي. وقد لا يكون الأمر ناتجاً عن تنفيذ أمر عمليّات صادر عن باريس، غير أنّ البيطار تحرّك وفق مناخات خارجية كانت غائبة قبل ذلك، وربّما كانت متواطئة في خفض سقف الملفّ وحشره داخل حدود محليّة. وما تحرُّك سفيرتَيْ الولايات المتحدة وفرنسا خلال الأسابيع الأخيرة لـ “حثّ” مسؤولي بيروت على المضيّ في التحقيقات، إلا تعبير عن هذه البيئة الخارجية الضاغطة.

سيصعب فصل استئناف قاضي التحقيق في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار تحقيقاته عن لقاء جمعه مع وفد قضائي فرنسي

على الرغم من أنّ وفوداً قضائية أوروبية زارت بيروت وأجرت تحقيقات بشأن ملفّات تتعلّق بالنظام المصرفي اللبناني وتجاوزاته فُتِحت في فرنسا وألمانيا وبلجيكا ولوكسمبورغ وليختنشتاين، وعلى الرغم من أنّ الأمر ستتبعه وجبات من التحقيقات الأخرى، لم يؤدِّ هذا التطوّر اللافت في ردّ فعل مصارف البلد وبيئة المودعين إلى ذلك الاضطراب الحادّ الذي شهده ملفّ انفجار المرفأ الذي فضح تفسّخاً خطيراً داخل منظومة القضاء اللبناني.

الثابت، الذي يجب اعتباره من الآن وصاعداً عاملاً مستجدّاً مستمرّاً ومطّرداً، أنّ الخارج يدلي بدلوه بأنماط صداميّة تتجاوز حَمائميّة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقاربة النظام السياسي اللبناني أو نظام العقوبات الذي تفرضه الولايات المتحدة بشكل انتقائي ومتقطّع على شخصيات ومؤسّسات لبنانية. فالوفود القضائية تنفّذ “غاراتها” في لبنان مستطلعة “دفاعات” بيروت من جهة، وممهّدة الطريق لحملات أخرى سياسية دبلوماسية واقتصادية ستسعى إلى “قصفٍ” عبر ضغوط أكثر وضوحاً وقسوةً من النداءات والتمنّيات السابقة.

تكشف “أزمة البيطار” عن تصدّع بات فاضحاً في احترام الحدود الدنيا من قواعد تسيير الدولة. فإذا ما ظهر انقسام في تفسير الدستور بشأن دعوة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي حكومة تصريف الأعمال إلى الانعقاد، وإذا ما ظهر صدام بشأن الفتاوى القانونية التي لجأ إليها البيطار من جهة ومدّعي عامّ التمييز غسان عويدات من جهة أخرى، فإنّ الظواهر تفرج عن تحلّل في كيان الدولة وتصادم السلطة التنفيذية مع مؤسّساتها على منوال ذلك الشقاق بين وزير الدفاع وقائد الجيش.

شعبويّة القضاء في تفجير المرفأ

الواضح أنّ مأساة انفجار مرفأ بيروت، التي يحمل أهالي الضحايا أوجاعها، تتعرّض لتعامل قضائي شعبوي فيه كثير من الانفعالية والكيدية، سواء في “استفاقة” البيطار على تحقيقه بناء على اجتهاده الخاصّ أو في ردّ فعل عويدات بـ”هدم المعبد” وإطلاق سراح جميع الموقوفين نكايةً بقاضٍ “متمرّد”. وإذا ما كانت الأزمة تُهدِّد بتشظّي الجسم القضائي وإذلاله (وفق وصف البطريرك بشارة الراعي)، فذلك يفاقم من عجز القضاء اللبناني عن بتّ ملفّ معقّد ودراماتيكي بمستوى التدمير الذي تعرّضت له عاصمة لبنان، من دون أن تلوح أعراض قضائية بديلة عن القضاء المحلّي تحمل ترياقاً لقضايا اللبنانيين.

تتعرّض مأساة انفجار مرفأ بيروت لتعامل قضائي شعبوي فيه كثير من الانفعالية والكيدية، سواء في “استفاقة” البيطار على تحقيقه بناء على اجتهاده الخاصّ أو في ردّ فعل عويدات بـ”هدم المعبد” وإطلاق سراح جميع الموقوفين نكايةً بقاضٍ “متمرّد”

يسيل حبر يستنتج إطلالةً لتحقيق دولي. لكنّ اللبنانيين هم أوّل من يجب أن يرتابوا من خيار من هذا النوع. ليس فقط بسبب امتناع هذا الخارج عن تقديم معلومات قد تفضح تورّطاً خارجياً وفق زلّة لسان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، بل لأنّ أيّ تدخّل خارجي له حسابات وسقوف محسوبة قد لا تجاري مصالح لبنان واللبنانيين، وللأمر سابقة فاضحة.

تجربة محكمة الشهيد الحريري

اختبر لبنان بوجع عميق ما انتهى إليه التحقيق الدولي بشأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري وما خرجت به المحكمة الدولية الخاصّة بهذا الشأن، علاوة على ما جرّه قرار إنشاء المحكمة الدولية والموقف اللبناني منها وكيفيّة التعامل معها من انهيار أمنيّ وسياسي ومجتمعيّ لامس حدود الحرب الأهليّة. جرى ذلك من دون أن يستطيع المجتمع الدولي الذي أنشأ هذه المحكمة تسمية المحرّض على الجريمة وصاحب الأمر فيها، إضافة إلى غياب أيّ إرادة، لدواعي المصالح والتوازنات الدولية، للقبض على المنفّذين.

سيتحرّك التدخّل الخارجي في قضايا لبنان لمصالح خارجية قد لا تتّسق مع مصالح المودعين هنا ومصالح أهالي ضحايا المرفأ هناك. وإذا ما كان من تحويلات ماليّة مشبوهة يأتي قضاة الخارج للتحقُّق منها في لبنان، فهي تحويلات جالت داخل النظام المالي الدولي بشكل شفّاف من مصدرها إلى مقصدها داخل مصارف العواصم الكبرى، على نحو يطرح أسئلة بشأن تورّط إرادة دولية في احتضان أموال مشبوهة والاستمرار في احتضانها. وإذا كان صحيحاً جدلاً أنّ تحريك التحقيق في كارثة المرفأ يجري وفق إيحاءات دولية، فإنّ واحداً من المتّهمين الذين تمّ إخلاء سبيلهم قد غادر البلاد إلى الولايات المتحدة تحت نظر هذا التدخّل الدولي وربّما برعايته.

لبنان فرعٌ أم أصلٌ؟

التوتّرات الداخلية هي مسار طبيعي لعلّة النظام السياسي اللبناني وليست سبباً له. أمّا حالة التعفّن التي تتوسّع داخل مؤسّسات الدولة، والتي يُسرَّب أنّها تستجيب أيضاً لإرادات خارجية، فهي متناسلة من داخل لبناني باتت منظومته السياسية عاجزة عن إدارة شراكاتها البينيّة. فإذا ما عجز “نوّاب الأمّة” عن انتخاب رئيس للجمهورية تنطلق معه عمليّة سياسية كاملة تُنتج حكومةً وترعى المؤسّسات، فإنّه ليس مستغرباً أن يستدرج اللبنانيون جميعاً تدخّلاً أجنبيّاً، حتى لو كان ذلك يعبّر عن يأس قد يقود إلى دمار.

قد تكون الحلقة اللبنانية جزءاً من حلقات أخرى في الصراع الدولي مع إيران بات العراق واحداً منها. وإذا كان الأمر كذلك فهذا يعني أنّ لبنان فرعٌ لا أصلٌ في تلك الحكاية. وحريّ بهذا التحوّل الدولي أن يطال المركز لا المحيط.

إقرأ أيضاً: مجد لبنان أُعطي للبطريرك.. لكن ليس للقضاء

استبق مدّعي عام التمييز القرار الظنّي المنتظر لقاضي التحقيق بسلسلة إجراءات هدفها تجويف ملفّ التحقيق واعتباره عدماً. غير أنّ ذلك القرار الظنّي العتيد، الذي لن تتعامل معه هياكل القضاء اللبناني وتنتهي معه مهامّ البيطار، سيتحوّل إلى وثيقة تقوم عليها ضغوط دولية صارمة قابلة للمقايضة قد تؤسّس من جديد لـ “ترسيمٍ” ما يَصنعُ في ملفّات لبنانية أخرى على منوال ما رسمه آموس هوكستين وأسلافه في حدود لبنان.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…