ارتكبت قوات الاحتلال الإسرائيلي مجزرة في مخيّم جنين في وضح النهار، وقد أسفرت عن سقوط تسعة شهداء بينهم شقيقان وسيّدة، وإصابة العشرات، وتُعتبر العمليّة الأشرس والأعنف ضدّ مخيّم جنين منذ عمليّة السور الواقي قبل عشرين عاماً، وسبّبت إرباكاً فلسطينياً لدى السلطة الوطنية وحركة حماس، فيما لم يصدر شيء عن حركة الجهاد الإسلامي.
ليست عملية القدس، التي أدّت إلى مقتل 7 مستوطنين ونفّذها الشابّ خيري علقم البالغ 21 عاماً، وهو من بلدة الطور بالقدس المحتلّة، ولا ينتمي إلى أيّ تنظيم فلسطيني، سوى ردّ فعل طبيعي على المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في جنين.
جاءت الجريمة تتويجاً لسياسة البطش والقتل التي يمارسها جنود الاحتلال بشكل يومي في الضفّة الغربية، للقضاء على ما يسمّونه “بؤر” المقاومة في جنين ونابلس والقدس وغيرها من المدن الفلسطينية.
وضعت المجزرة السلطة الفلسطينية في موقف حرج جدّاً أمام شعبها، واستدعت من الرئاسة الفلسطينية إعلان وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، وذلك في ختام اجتماع طارئ للقيادة الفلسطينية عُقد في أعقاب العدوان الإسرائيلي على مخيّم جنين.
وضعت المجزرة السلطة الفلسطينية في موقف حرج جدّاً أمام شعبها، واستدعت من الرئاسة الفلسطينية إعلان وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي
“هزال” حماس والأزمة الإسرائيليّة
إلى ذلك وضعت هذه المجزرة الإسرائيليّة حركة “حماس” التي تحكم قطاع غزّة أمامَ امتحانٍ صعبٍ وحرجٍ جدّاً، بحيث ما عاد باستطاعتها “التملّص” كما حدث في عدوان شهر أيار الماضي عندما تركت حركة “الجهاد الإسلامي” تُواجه قدرها لوحدها في مُواجهة الإسرائيليين في حرب الأيّام الثّلاثة. لكنّ ردّ حركة حماس بدا هزيلاً وتكراراً لسيناريو معتاد في مثل هذه الظروف والسوابق حاضرة في العقل الفلسطيني، وتجلّى ذلك في تصريحات نائب المكتب السياسي لحركة حماس صالح العاروي عن أنّ “ردّ المقاومة على ما حدث في جنين ومخيّمها اليوم لن يتأخّر”.
كان توقيت العملية العسكرية ضدّ جنين، بحسب مصادر فلسطينية رفيعة لـ “أساس”، محاولةً من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو لصرف الأنظار عن خروج عشرات الآلاف من الإسرائيليين في تظاهرات مناهضة لحكومته.
وما يؤكّد ذلك هو ما كشفه المؤتمر الصحافي العاجل الذي عقده بنيامين نتانياهو في القدس عن عقب أخيل (عقب أخيل أو كعب أخيل هو مصطلح يشير إلى نقطة ضعف مميتة على الرغم من كلّ القوة التي يمتلكها الشخص، فإن أُصيب كعبه يؤدّي إلى سقوطه بالكامل. ويعود أصل المصطلح إلى الميثولوجيا الإغريقية)، قاصداً بذلك الاقتصاد.
عملية جنين الملجأ الوحيد لنتنياهو
قد يتمكّن نتانياهو من استيعاب تظاهرات الشوارع ضدّه وخطاب رئيسة المحكمة العليا واحتجاج رجال القانون، لكن منذ اللحظة التي انضمّ فيها كبار الاقتصاديين في إسرائيل إلى المحتجّين في الشوارع اجتاح الرعب نتانياهو.
بدت عمليّة جنين وكأنّها الملجأ الوحيد لنتانياهو من أجل تشتيت الرأي العامّ الإسرائيلي، وقد رافقتها دعاية مفادها أنّ الشاباك كان يقود عملية عسكرية وقوّات كبيرة من الجيش بغرض اعتقال هدف كبير وإحباط هجوم كبير يُخطَّط له من داخل مخيّم جنين.
كان توقيت العملية العسكرية ضدّ جنين، بحسب مصادر فلسطينية رفيعة لـ “أساس”، محاولةً من رئيس الحكومة نتانياهو لصرف الأنظار عن خروج عشرات الآلاف من الإسرائيليين في تظاهرات مناهضة لحكومته
هذا وزعم ضابط كبير في جيش الاحتلال الإسرائيلي أنّ العملية العسكرية التي نُفّذت في قلب مخيّم جنين كان الهدف منها “إحباط قنبلة موقوتة” من صنيعة حركة الجهاد الإسلامي التي كانت تخطّط لشنّ هجمات داخل إسرائيل. الرهيب في الأمر أنّ الضابط تبجّح معتبراً أنّ الشهداء التسعة “قياساً بكمّية النيران التي تمّ إطلاقها ضدّ القوات الإسرائيلية أقلّ ممّا كان يمكن أن يكون”، وأنّ الاحتلال “مستعدّ لأيّ سيناريو”.
أضاف الضابط في تصريح موجز إلى الصحافيين الإسرائيليين أنّه مع بدء العملية فعّل المسلّحون في جنين “صفّارات الإنذار”، ونشروا 30 حاجزاً اخترقتها جميعها قوات الجيش وأزالتها للوصول إلى المطلوبين.
القتل الإسرائيليّ ثابتة سياسيّة
من ناحية أخرى، كذب الناطق العسكري الإسرائيلي عندما ادّعى أنّ عدد القتلى والجرحى برصاص الجيش الإسرائيلي “مرتبط بمستوى التهديد الذي تعرّضت له القوات في مخيّم جنين، وليس نتيجة تغيير في سياسة استعمال القوّة”. صحيح أنّ سياسة القتل هي ثابتة من ثوابت السياسة الإسرائيلية، إلا أنّ وتيرة القتل موضوع تحدّده نوعية القيادة السياسية، ولا شكّ أنّ حكومة الثالوث اليميني الجديد تسعى إلى أن يشعر الفلسطينيون بوقع أقدامها الثقيلة في شوارع وأزقّة أحيائهم.
في هذا السياق، كتب المحلّل العسكري الإسرائيلي أمير أورن، في صحيفة “هآرتس”، أنّ “سموتريتش يخطّط لنكبة ثانية، فهو يعتقد أنّ التاريخ يعود معه وبفضله ومن الممكن العودة إلى التعامل مع فلسطينيّي الداخل والضفة وغزة والقدس كما حدث في الأيام التي سبقت وتلت 1948”.
إقرأ أيضاً: لا يدفع الفلسطينيّون وحدهم الثمن
لا تبشّر الأيام المقبلة بخير. فهناك قضية ملحّة أخرى ستضع النار على البارود في الضفّة الغربية، وهي نقل صلاحيّات الإدارة المدنية إلى الوزير المتطرّف بتسلئيل سموتريتش، وهو ما تعيه الأجهزة الأمنيّة في تل أبيب. لذلك يطالب ضبّاط كبار نتانياهو بمنع نقل الصلاحيات إلى سموتريتش في كلّ ما يتعلّق بحواجز الاحتلال في الضفّة والموافقة على تصاريح العمل للفلسطينيين، إذ إنّها “قضية أمنيّة واضحة”. ولفت تقرير إلى أنّ الجيش الإسرائيلي معنيّ “بعدم السماح لسموتريتش بالتدخّل في تعيينات الضبّاط في الإدارة المدنية” في الضفّة.
*كاتبة فلسطينية