تبدو الكويت محكومة باستمرار الأزمات وتكرار التجارب السابقة، مع غياب الحلول الكفيلة بإرساء الاستقرار السياسي. فالحكومة التي شُكّلت بعد الانتخابات الأخيرة في نهاية أيلول الماضي، لم تصمد أكثر من ثلاثة أشهر، مع اهتزاز التسوية التي أُبرمت بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.
“عودٌ على بدء” هو العنوان للأزمة السياسية الراهنة، والتاريخ يكرّر نفسه: نواب رفعوا السقف بتقديمهم استجوابات لإطاحة وزراء وبطرحهم قوانين شعبوية على رأسها “إسقاط القروض”، مع إدراكهم لصعوبة تحقيق الأهداف.
قرأت الحكومة الرسالة بأنّها “نقضٌ” للاتّفاقات السابقة، فقدّمت استقالتها مُعلّلة إيّاها “بما آلت إليه العلاقة بين السلطتين”، وسقوط التعاون الذي كان يُفترض أن يشكّل الأساس للمرحلة الحالية، وأقلّه على المدى القصير.
أصل الأزمة
تُظهر الخطوات غير المسبوقة التي اتّخذتها السلطة التنفيذية لإرضاء النواب منذ منتصف 2022 حتى مطلع 2023، أنّها كانت متنوّعة وشاملة وتحقّق السواد الأعظم من المطالب النيابية، وأبرزها:
– حلّ مجلس الأمّة السابق والذهاب إلى انتخابات تشريعية مبكرة.
– ضمان نزاهة الانتخابات من خلال إعطاء حقّ التصويت للمواطنين القاطنين في مناطق جديدة، واستخدام عناوين السكن كما هي واردة في البطاقة المدنية (بطاقة الهويّة الرسمية).
يؤكّد خبراء في الشأن السياسي الكويتي أنّ قسماً وازناً من النواب قرأ التعاون ضعفاً وفهِم أنّ التنازلات التي قُدِّمت نابعة من قوّة السلطة التشريعية وقدرة أعضائها على وضع العصيّ في الدواليب
– عدم التدخّل في مجريات الانتخابات، عبر دعم مرشّحين موالين للحكومة.
– الاستمرار بنفس النهج بعد الانتخابات، فلا تتدخّل الحكومة بخيارات النوّاب في انتخاب رئيس مجلس الأمّة واللجان النيابية. وفي ذلك تنازل عن حقّ دستوري للوزراء الذين يصبحون أعضاء في مجلس الأمّة بعد أدائهم القسم، ويحقّ لهم التصويت في جميع الأمور، ما عدا حالات مساءلة الحكومة.
– تشكيل حكومة جديدة بغالبيّة أعضائها، وإخراج بعض الوزراء منها تلبية لمطالبات نيابية.
– وضع الحكومة برنامج عمل ذا جدول زمني محدّد للسنوات الأربع المقبلة، يتضمّن غالبية الملفّات التي يطالب بها النواب.
– إصدار عفو خاصّ عن عدد من المحكومين من دون أيّ شروط، تماماً كما يُطالب النواب (مع بقاء عدد بسيط من الأسماء التي لم يشملها العفو).
القراءات الخاطئة سياسيّاً تسبّب الأزمة
يؤكّد خبراء في الشأن السياسي الكويتي أنّ قسماً وازناً من النواب “قرأ التعاون ضعفاً وفهِم أنّ التنازلات التي قُدِّمت نابعة من قوّة السلطة التشريعية وقدرة أعضائها على وضع العصيّ في الدواليب”، فجاءهم الردّ من صاحب القرار بأنّ لكلّ شيء حدوداً، وأنّ التنازلات لإرساء استقرار سياسي لا تنمّ عن ضعف وإنّما تهدف إلى تسيير عجلات الدولة ومعالجة التحدّيات الكبرى، سواء تلك المرتبطة بالاقتصاد وضرورة تنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد على النفط مصدراً وحيداً، أو بالإقليم وضرورة تحصين البيت الداخلي مع تصاعد التوتّر في المنطقة وغياب أيّ أفق للتسويات.
أمام هذا الواقع، قبِلَ وليّ العهد استقالة الحكومة يوم الخميس الماضي، وكلّفها بتصريف الأعمال، فأصبح النواب عمليّاً بين حدّين: الأوّل هو خسارة مقاعدهم واضطرارهم إلى خوض انتخابات جديدة في حال حلّ مجلس الأمّة، والثاني خسارة المكتسبات التي حقّقوها في الأشهر القليلة الماضية، ويقول البعض إنّهم “لا يحلمون بها مجدّداً”.
تشابك أدّى إلى اشتباك
في الأيام القليلة الماضية، نشطت وراء الكواليس اتّصالات متنوّعة بين أصحاب الشأن، غالبيّتها بمبادرات من نواب ينتمون إلى كتل وازنة، وهدفها “إحياء التسوية” ومنع سقوطها كليّاً، لكن من غير الواضح هل يمكن أن تؤدّي إلى نتائج إيجابية لسببين رئيسيَّين:
– الأول: غضب القيادة السياسية من تصرّفات بعض النواب الذين يسعون إلى “التأزيم”، مهما كانت التداعيات.
– الثاني: اهتزاز ثقة الحكومة بالعديد من الكتل النيابية، بعد ثبوت عدم قدرتها على تنفيذ تعهّداتها والتزاماتها.
بناء على ذلك، تصبح الخيارات متعدّدة وصعبة التوقّع، لكنّها في المحصلة تراوح بين خمسة:
1- إحياء التسوية بموجب تعهّدات نيابية جديدة وضمانات مختلفة، وعودة رئيس الوزراء الحالي الشيخ أحمد النواف إلى رئاسة تشكيلة حكومية جديدة.
2- تكليف شخصية جديدة برئاسة الحكومة، ضمن قواعد مختلفة.
3- اتّخاذ قرار بحلّ مجلس الأمّة، وفق الدستور، والذهاب مجدّداً إلى انتخابات مبكرة تُفرز مشهداً جديداً.
4- إبطال القضاء لمجلس الأمّة نتيجة أخطاء إجرائية (كما جرى في 2012)، إذ توجد العديد من الدعاوى المنظورة أمام المحكمة الدستورية، ويُتوقّع أن تفصل فيها بين شهرَيْ آذار ونيسان المقبلين. وفي هذه الحالة، يعود المجلس السابق لفترة محدّدة، ثمّ تُجرى انتخابات جديدة، مع ما لذلك من تداعيات تجعل الأمور أكثر تعقيداً.
5- بقاء الوضع غير محسوم لفترة طويلة، بحيث تواصل الحكومة الحالية تصريف الأعمال حتى الربيع المقبل، ويُصار إلى تفكّك بعض الكتل بسبب تضارب الرؤى بين النواب، ثمّ تأتي أخرى جديدة لا يكون أمامها الكثير من الوقت قبل حلول الصيف، وهو موعد انتهاء دور الانعقاد الأول لمجلس الأمّة، وبالتالي يؤجَّل الحسم إلى دور الانعقاد الجديد في الربع الأخير من عام 2023.
أيّاً يكن السيناريو الذي ستُفضي إليه الأمور في نهاية المطاف، بات واضحاً أنّ التسوية الحالية “هشّة” وليست كافية لحلّ الأزمة، وأنّ استراتيجية قسم كبير من النواب تقوم على قاعدة “خُذْ وطالِب”، إذ كلّما حصلوا على تنازلٍ أرادوا آخر، وهو ما يعني عمليّاً أنّ الأمر لا يتعلّق بملفّات عالقة أو تضارب الرؤى بين السلطتين، بقدر ما هو انعكاس لصراع القوى التي تقف وراء كثير من النواب، وسعيها إلى تحقيق مكاسب.
إقرأ أيضاً: الكويت.. أزمة دستورية على الطريقة اللبنانية
في المحصّلة، سيبقى العامل الحاسم في مسار الأمور مرتبطاً بقرار القيادة السياسية، التي تمارس “الحزم” على طريقتها، وتسعى في الوقت نفسه إلى نسج علاقة سويّة بين الحكومة ومجلس الأمّة من بوّابة الحوار والتعاون والاتفاق على الأولويّات، وهو ما يسمح للأولى بالانصراف إلى مهامّها التنفيذية في تطبيق رؤية “كويت جديدة 2035″، وللثاني بممارسة دوره الرقابي والتشريعي المنصوص عليه في الدستور.