تبرز مجدّداً إشكالية المارونية السياسية إلى العلن. هي أزمة رافقت مسيرتها الكيانية والاجتماعية والسياسية والمفهومية لنفسها ولـ”أمّتها” المتخيَّلة ولدورها وما زعمته من سرديّات عن نفسها ومحيطها منذ عام 1860 إلى اليوم.
نحت المفكّر العروبي اللبناني منح الصلح مصطلح “المارونية السياسية”، وأصّله (دون توقيعه) في كتيّب نشرته صحيفة “السفير” قبيل حرب السنتين في سبعينيّات القرن الماضي. لا يقترب منح الصلح طائفياً من المارونية كدين ومذهب يخصّان أناساً بعينهم، وكذلك ما يفعله كاتب هذه العجالة. فالعبادة والمِلّة والنِّحلة والطائفة مسألة خاصة داخل الفرد.
يكتفي منح الصلح بربط مصطلحه بمفهوم “تسييس الدين”، ولم يتنبّه إلى مفهوم “تديّن السياسة”، والفرق بين المفهومين كبير. في المفهوم الأوّل، السياسة هي الفاعل، والدين هو المفعول به. وفي المفهوم الثاني، المعادلة منقلبة، فالدين هو الفاعل والسياسىة هي المفعول بها.
ظهرت في فرنسا فكرة “لبنان الكبير” لدى موارنة لبنان المقيمين فيها، فيما بقيت فكرة “المتصرّفية” هي المهيمنة على الموارنة المقيمين هنا
ينطبق المفهوم الأوّل على الفكر الإمبراطوري (فكر الأكثريّات)، إذ باستطاعتها الاستيعاب وتدوير المنفعة بين السلطان وحاشيته ووسائل السيطرة من خلال أجهزة التبخير، والمقدَّمين، والوجهاء، والباشوات والبكوات (دخل اللقبان الأخيران العربية من الفارسية عن طريق التركية، وهما مصطلحان زراعيان مربوطان بعلاقة روحية. فالأوّل يعني الخالد، والثاني يعني الطاهر). في الواقع، تتبدّل الألقاب بحسب الزمان والمكان ووسائل الإنتاج والسيطرة، لكنّها كلّها تعني الفرز بين “من هم فوق” وعكسها “من هم تحت” من عوامّ أو الجماهير الغفيرة إلخ.
تديين السياسة
المفهوم الثاني “تديين السياسة” هو مصطلح الأقليّات عامّة ويعني أنّ السياسة تخضع لمفهومها الهويّاتي دون سواه لتصل في النهاية، إمّا إلى الفكر الإمبراطوري أو تبقى عاجزة أسيرة الفكر الأقلّويّ، فتهوي من حفرة إلى أخرى وصولاً وانتهاء بحفرة العدم.
القرن التاسع عشر هو قرن “الرجل المريض” عندنا، والتوسّع والسيطرة الاستعماريين عند الغرب (كلمة استعمار مشتقّة من الفعل عمّر بمعنى بنى، ولفظها في أصله خادع قصد مترجموه الأوائل التهليل لـ”الغارة” على عالمنا، وانقلب معناها إلى شتيمة ورفض في منتصف القرن الماضي مع ظهور الثنائية القطبية، وهو ما أفسح المجال للبدء بالتحرّك ضدّ الهيمنة الغربية).
ابتداء من عام 1860، رسمت فرنسا المتنافسة مع بريطانيا مفهوم سوريا الكبرى ليكون مكاناً لتمدّدها الاستعماري، كما أوحى به المستشرق إرنست رينان، وذلك بسبب أنّ أكثريّة ديمغرافيا المنطقة مسيحية، بصرف النظر عن تعدّد الفرق المسيحية. وشنّت فرنسا عمليات عسكرية امتدّت إلى كامل ما يعرف اليوم بلبنان وسوريا، استناداً إلى إقرار “الرجل المريض” بحقّ الدول الغربية في حماية وحصانة أقلّيّاتها المثبتة منذ ما عُرف باسم “الإصلاحات العثمانية”.
ظهرت في فرنسا فكرة “لبنان الكبير” لدى موارنة لبنان المقيمين فيها، فيما بقيت فكرة “المتصرّفية” هي المهيمنة على الموارنة المقيمين هنا. وربطاً بالاهتمام الفرنسي بالآثار المكانية كدليل على مفهوم الأمّة إلى جانب الإرادة، اهتمّ لبنانيّو فرنسا بالآثار التاريخية الفينيقيّة، فيما تمسّك لبنانيّو المتصرّفية بتأريخ ظهور المسيحية، وفي العمق بتاريخ ربط المارونية بروما في أوائل القرن الحادي عشر مع الحملات الصليبية التي رعتها روما.
إلى جانب تسييس الدين، مارست المارونية السياسية، عبر كرسيّها الذهبي وعظة الأحد ومجلس الموارنة، مفهوم “تديين السياسة”، فشكّلت الغطاء الحامي للمراكز الثلاثة مهما اختُلف مع الأشخاص المتربّعين عليها
البشائر الأولى
نلحظ هذا التباين في موقف بشير الجميّل قائد القوات اللبنانية حين ذكر أنّ عمر الكيان اللبناني 6,000 سنة، مقابل موقف جبران باسيل زعيم التيار العوني الذي يبلغ عمر لبنان بنظره 2,000 سنة فقط، في حين نلحظ أنّ السُّنّة أو المحمّديّين عامّة ربطوا عمر الكيان السياسي اللبناني بعمر ظهور لبنان الكبير والجمهورية اللبنانية فقط، أي من عمر اتفاق سايكس بيكو بعد الحرب العالمية الثانية.
مع اقتناع البطريرك الحويّك بفكرة لبنان الكبير، علماً أنّ شقيقه كان من أنصار فكرة وحدة سوريا ولبنان، تمّ أخذ الصورة التاريخية على درج قصر الصنوبر في بيروت: الجنرال الفرنسي هنري غورو، وعلى يمينه البطريرك الياس الحويّك، وإلى يساره مع مسافة أبعد المفتي مصطفى نجا، وظهر بشارة الخوري في الصورة في الصف الأمامي الدائري على يمين البطريرك الحويّك (واضح من الصورة أنّ المحمّديين تراصفوا جهة المفتي نجا).
المارونيّة إذ ترث فرنسا
مع إعلان الاستقلال، اعتبرت المارونية السياسية نفسها وريثة المندوب السامي الفرنسي، ومارست هذا الدور عبر جناحَيْها الدستوريّ والكتلويّ، ومن خلال امتلاكها الثلاثية الذهبية لسيطرتها، وهي:
1ـ كرسي رئاسة الجمهورية.
2 ـ الإمساك بالاقتصاد، الذي عبّرت عنه “الشهابيّة” (حكم فؤاد شهاب) في المصرف المركزي.
3 ـ الأداة السلطويّة: قيادة الجيش والأجهزة الأمنيّة.
وكانت في هذا تمارس مفهوم “تسييس الدين” وتقترب أو تبعد عن الحصرية المارونية حسب مصلحتها وظرفها. وكان الموارنة يتنافسون فيما بينهم بشراسة على الدور الأول ( كرسي الرئاسة).
تبرز مجدّداً إشكالية المارونية السياسية إلى العلن. هي أزمة رافقت مسيرتها الكيانية والاجتماعية والسياسية والمفهومية لنفسها ولـ”أمّتها” المتخيَّلة ولدورها وما زعمته من سرديّات عن نفسها ومحيطها منذ عام 1860 إلى اليوم
الهيمنة الإيرانيّة بديل مُستجدّ
حصل هذا ويستمرّ إلى اليوم على الرغم من إصابة كرسي الرئاسة بهشاشة مركزية ابتداء من سبعينيّات القرن الماضي ووقوعه تحت الهيمنة السورية، ثمّ انتقاله بعد إخراج الجيش السوري إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري تدريجياً إلى الهيمنة الإيرانية.
إلى جانب تسييس الدين، مارست المارونية السياسية، عبر كرسيّها الذهبي وعظة الأحد ومجلس الموارنة، مفهوم “تديين السياسة”، فشكّلت الغطاء الحامي للمراكز الثلاثة مهما اختُلف مع الأشخاص المتربّعين عليها. ولمّا تعثّرت الأحوال بفعل المتغيّرات الأخيرة، تقدّمت المارونية السياسية من خلال صفوفها الثانوية بمشروع الفدرالية، وهو ما يعطي صورة مبطّنة لأسباب سلوكها المتكرّر، في أزماتها المصيريّة، المتمثّل في هروبها عائدةً إلى المتصرّفية تحت رغبة التقسيم الدفينة.
المقدّس مع المدنّس: الدين والسياسة
يتولّى هذا الطرح اليوم جماعة “تُسيِّس” الدين مع الأمل بتغطية جماعة “تديين السياسة”، وهم في مؤتمرهم الأخير يعتبرون الطائف، وهو الصيغة السياسية لاستمرار الكيان السياسي اللبناني، أنّه قد دُفن مع موت رعاته المحلّيين اغتيالاً أو طبيعياً، وتبدّل أحوال رعاته الخارجيّين الإقليميين، محاولين تسويق الموضوع عبر واجهة بيروتية من باب التمويه.
من السهل أن يُردّ على طرح كهذا بطرح “مشروع بيروت الكبرى”، من نفق نهر الكلب إلى خلدة، ومن خلال اتّحاد بلديّات بيروت الكبرى الثلاث: بيروت الأولى الحالية بواقعها السنّيّ الأرثوذكسي الدرزي، وبيروت الثانية بواقعها الأرمني الأرثوذكسي وأحزابه المتنوّعة، ومعهم موارنة الضواحي من فرن الشبّاك وسنّ الفيل وعين الرمّانة، وبيروت الثالثة بشيعتها، ومن هو باقٍ معهم من مختلف الطوائف.
إقرأ أيضاً: لبنانيّ مارونيّ: أوّل سفير للفاتيكان في الإمارات
وعليه، فلا المطار، ولا المرفأ، ولا خزّانات الوقود، ولا مياه بيروت لهم. بيروت الكبرى هي وريثة بيروت ما قبل الحرب العالمية الأولى، حيث التنوّع والاختلاف. وهي مدينة الغرباء، وليست ضيعة أبي ملحم، وفيها الجامعات الأميركية، واليسوعيّة، واللبنانية، والعربية، وجامعة هايكازيان وغيرها، وفيها الثقل الديمغرافي والمدني، والسراي الحكومي، ومجلس النواب.
فمن يتذاكى خلف تهويمات ينعزل فيها، عليه أن يتوقّع ردود أفعال عليها، وسيكون التسامح، لا الإبراء، هو المستحيل.