في الحلقة الثانية هذه، يواصل فريدريك هوف، الدبلوماسي الأميركي الذي شغل مناصب حسّاسة عدّة في وزارة الخارجية وفي سفارات بلاده في أكثر من دولة منها بيروت في بداية الثمانينات، وفي مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل، دروسه الدبلوماسية، فيتذكّر رفعت الأسد و”الفرسان الحمر”، الاجتياح الإسرائيلي، قائد الجيش فكتور خوري “لاعب البوكر العالمي” و”الحبّوب” مدير المخابرات جوني عبده، وصولاً إلى الانتفاضة الشيعية ضدّ الوجود الفلسطيني، والأسباب التي أدّت، في اعتقاده، إلى وجود حزب الله، وغيرها الكثير.
تقرير كاذب من مخبر لبنانيّ؟
بعد أشهر من تعرّفي على الفرسان الحمر، كنت خلف مكتبي في السفارة أكتب التقارير عندما سلّمني منسّق العمليات لدينا برقيةً عاجلةً من ملحق الدفاع الأميركي في السفارة في تل أبيب. وبحسب البرقية، رصدت إسرائيل “مروحيّةً إرهابيّةً” قيد الإنشاء جنوب غرب بيروت. وتحسّباً لعملية انتحارية فلسطينية في المستقبل القريب، كان سلاح الجوّ الإسرائيلي يعدّ مهمّةً لتدمير المروحية. كان التوقيت غير مؤكّد، لكنّ زملاءنا في إسرائيل قدّموا لنا الإحداثيّات الدقيقة للمنطقة التي يتمّ فيها تطوير الهدف. راجعت الخريطة ورأيت أنّ الموقع المذكور كان في منطقة سكنية مكتظّة بالسكّان، ربّما على بعد 20 دقيقةً بالسيّارة من السفارة، ولم يكن داخل مخيّم فلسطيني. توجّهت بأسرع ما يمكن إلى الموقع المحدّد. ما وجدته أزعجني، إذ كان بقايا طائرة هليكوبتر صغيرة مغطّاة بالرمل لكن مطليّة حديثاً، وربّما كانت طائرة أحد المتقاعدين اللبنانيين في الطيران المدني، وقد وُضعت على أرض ما يبدو أنّه ملعب لمدرسة قريبة. بقايا طائرة خالية من الأجهزة والأسلحة تمّ تثبيتها ووضع سلّم صغير لها، ومن الواضح أنّها كانت مخصّصةً لأغراض ترفيهية.
عدت بسرعة إلى السفارة، وكان هذا قبل سنوات عدّة من وجود الاتصالات الخلوية، وعند دخولي المبنى بدأت بكتابة كابل “فلاش” (أولويّة قصوى) إلى مكتبنا التابع لملحق الدفاع في تل أبيب. استغرق الأمر منّي 15 دقيقةً لكتابة البرقيّة وإرسالها. كانت مكتوبةً جزئياً بأسلوب شعري رديء. “كانت مروحية ذات مرّة، ولم تعد موجودةً. ليس لديها محرّك، وليس لها باب…”. خلصت إلى القول إنّه يجب إلغاء العملية المخطّط لها لتجنّب كارثة. لم يُعجَب زملائي بهذا النهج. انتقد الملحق العسكري في تل أبيب استخدامي للشِعر لأنّه “غير مهني”. لكنّ هدفي كان زيادة الاهتمام، في كلّ من تل أبيب وواشنطن، للمساعدة في تجنّب شيء مروّع حقّاً. ولم يضيّع زملائي في تل أبيب أيّ وقت في إقناع إسرائيل بإلغاء العملية المخطَّط لها. ما زلت أتساءل اليوم: هل كانت الكارثة المحتملة ناجمةً عن تحليل خاطئ لاستطلاع جوّي أو تقرير كاذب من مخبر لبناني أو مزيج من الاثنين. خلال الفترة التي قضيتها في لبنان، لم أكن أعلم ولم تُتَح لي الفرصة للإبلاغ عن العمليات الإرهابية التي قامت بها إسرائيل. في الواقع، ربّما كان الجيش الإسرائيلي يعتمد على الملحق العسكري الأميركي في بيروت لمراقبة الهدف المحتمل قبل اتّخاذ خطوات إضافية.
جوني عبدو الحبّوب..
مع ذلك، كانت الطائرات الإسرائيلية تحلّق في سماء بيروت طوال الوقت. وزوّدتنا بالمعلومات الأساسية لتقريري الاستخباراتي الثاني، بعد أيّام فقط من التقرير الأوّل المتعلّق بالفرسان الحمر. كنت أقدّم أوراق الاعتماد الخاصّة بي إلى العقيد جوني عبدو، كبير ضبّاط المخابرات في الجيش اللبناني والمستشار المقرّب من الرئيس إلياس سركيس. حثّني عبدو، وكان شخصيّةً محبّبةً، على الاستفادة من إقامتي في لبنان والاعتماد عليه وعلى فريقه في تزويدي بأيّ معلومات عن الوضع العسكري للبلاد قد أحتاج إلى نقلها إلى واشنطن. وأشار إلى أنّ التنس سيكون هوايةً جيّدةً لي.
بعدما قدّمت أوراق اعتمادي، ذهبت، بل اصطُحبت، إلى مكتب قائد القوات المسلّحة اللبنانية الجنرال فيكتور خوري، وهو ضابط قدير ولاعب بوكر من الطراز العالمي، كان يُنظر إليه على نطاق واسع في جميع صفوف الجيش اللبناني على أنّه “لبناني حقيقي”. كنّا نتبادل الحديث عندما سمعنا فجأةً دويّاً قويّاً من بعيد. انتقلت بأسرع ما يمكن إلى خارج المبنى، وتحديداً إلى مكان يوفّر إطلالةً واضحةً وكاملةً على بيروت. رأيت مبنى محدّداً يتمّ استهدافه وتتعرّض نوافذ معيّنة فيه للقصف بذخائر قويّة. كانت السماء صافيةً، ولم أرَ أيّ مروحيات أو طائرات نفّاثة. ولمدّة دقيقة تقريباً، استمرّ إطلاق الطلقات بدقّة شديدة وبقوّة من مصادر غير مرئية لي. أرسلت تقريراً إلى واشنطن يصف ما رأيته، أو بشكل أكثر دقّةً ما لم أرَه. اعتقدت أنّ استنتاجي كان معقولاً: ربّما تمّ تنفيذ هجوم إسرائيلي من ارتفاعٍ عالٍ باستخدام صواريخ موجّهة عالية التقنية على مبنى كان يُعتقد أنّ فيه شخصيةً فلسطينيةً بارزة.
هجوم عشّ الدبابير الإسرائيليّ
كان ردّ واشنطن، الذي جاء في غضون 24 ساعةً، رافضاً بشكل مباشر، ويشير إلى أنّ ملاحظتي كانت خطأً كبيراً. وأصرّت، لأسباب غير محدّدة، على سحب التقرير. قرأ الكولونيل تولني الردّ وابتسم. “فريد، يا ولدي، لقد حرّكت عشّ الدبابير. آخر ما تريد واشنطن أن تسمعه هو أنّ إسرائيل انتهكت الشروط التي تمّ بموجبها توفير هذه الذخائر لها باستخدامها لشيء آخر غير الدفاع عن النفس. هذا يعني أنّ هناك من يريد إثارة الوضع مع الإسرائيليين. من يريد أن يفعل ذلك؟”.
لم أكن على علم بالحساسيّات السياسية المحيطة بتقريري. لقد قلت ببساطة إنّ الظروف التي يمكن ملاحظتها تشير إلى استخدام ذخيرة ذات تكنولوجيا متقدّمة، لكنّ ملاحظتي لم تكن اتّهاماً قاطعاً. نعم، ربّما كنت مخطئاً، لكن كنت دبلوماسياً عسكرياً وظيفته الإبلاغ، وما رأيته كان انفجارات متعدّدةً تحدث في منطقة مستهدَفة ضيّقة جدّاً، مع عدم وجود نظام مرئي. ربّما كانت تكهّناتي بطبيعة الذخيرة غير مبرّرة. ربّما كان يجب أن أتمسّك بما رأيته ولم أرَه. لم أشعر بالراحة من إثارة غضب إدارة واشنطن في الأسبوع الأول من عملي. وكنّا نفكّر أنا والكولونيل تولني في ما يجب القيام به بعد ذلك حين جاءنا زائر غير متوقّع: الملحق العسكري اليوناني، وهو كولونيل في القوات الجوّية تلقّى تدريباً مكثّفاً في الولايات المتحدة ليكون طيّاراً مقاتلاً. جاء ليبلغنا ملاحظاته بشأن ضربة جوّية حدثت قبل وقت واستهدفت بناية في وسط بيروت. كان في اجتماع قريب وشقّ طريقه إلى سطح أحد المباني لمراقبة الهجوم، ووصف بدقّة الواحدة تلو الأخرى الذخائر القويّة والدقيقة التي أصابت بناءً مستطيلاً ضيّقاً من ثماني أو 10 نوافذ. بحث عن طائرات في السماء ولم يرَ شيئاً. كتب تولني ردّاً إلى البنتاغون أورد فيه ملاحظات العقيد اليوناني، وخلص إلى ما يلي: إذا لم يتمّ استخدام ذخائر عالية التقنيّة في الهجوم، فقد احتكرت إسرائيل تسليم القنابل الحديدية التقليدية المنطلقة من ارتفاعات عالية جدّاً. هذه المرّة لم يكن من ردّ. بعد سنوات، في أثناء الإعداد لتدريس مقرّر دراسي عن الدبلوماسية في كلّيّة بارد، قرأت الكلمات التالية التي صاغها تشارلز فريمان في “فنون القوّة”: “يجب على الدبلوماسيين تنبيه حكوماتهم إلى الحقائق والآثار المترتّبة على هذه الحقائق، حتى عندما لا ترغب حكومتهم بشكل واضح في أن يتمّ تنبيهها”.
لقد كانت بيروت نفسها مكاناً لفرص مثيرة لجمع المعلومات والإبلاغ عنها، وليس فقط في حالات تصاعد الدخان من السفارات أو ضربات جوّية لـ”مروحية إرهابية” تمّ تجنّبها
السفارة العراقيّة أوّلاً
حدثت تجربة ثانية مع اهتزاز مبنى آخر في منتصف كانون الأول 1981. كنت في مكتبي في السفارة أقوم ببعض الأعمال الورقية، وهي جزء كبير من وظيفة أيّ ملحق عسكري، بدءاً من كتابة تقارير استخباراتية وصولاً إلى تقويم أداء المرؤوسين. فجأةً، بدأ المبنى يهتزّ. أوّل ما خطر ببالي هو حدوث “زلزال”، وهو استنتاج مبدئي يتوافق تماماً مع تاريخ بيروت الزلزالي. لكنّ الاهتزاز سرعان ما توقّف. وبعد بضع دقائق ظهر ضابط في السفارة على باب مكتبي. قال: “فريد، تردنا تقارير عن انفجار هائل ليس بعيداً من هنا، ربّما بالقرب من سوبرماركت سبينيس. هل يمكنك التحقّق من ذلك؟”. ركبت سيارة “سكايلر” المأمونة أمنيّاً وتوجّهت إلى سبينيس. ومع اقترابي من المتجر، تمّ إيقافي عند نقطة تفتيش تابعة للجيش اللبناني تمركزت على عجل: مظهر نادر لحالة غير موجودة. عرّفت بنفسي وسألت عن انفجار قريب، فاقترب ضابط صغير منّي، وقال: “نعم. إنّها سفارة العراق. لقد تمّ ضربها”.
دمّر السفارة انتحاريّ بسيارة مفخّخة، وقتل العشرات من موظّفي السفارة، ومن بينهم السفير. كان غزو العراق لإيران يقترب من شهره الخامس عشر. لم يكن من الصعب التكهّن بهويّة الجاني أو المنسّق. ما لم أتوقّعه هو أن تقوم في غضون عامين سيّارات مفخّخة لبنانية تمثّل إيران بإسقاط السفارة التي كنت أعمل فيها وتفجير مقرّ قوات حفظ السلام الأميركية بالقرب من المطار.
معلومات جوني عبدو غير كافية
في ذلك الوقت، لم تكن لديّ أدنى فكرة عن تفجيرات محتملة مقبلة لسفارات أو غير ذلك. لم يكن من نقص في جمع المعلومات عن الأهداف العسكرية في لبنان والإبلاغ عنها. بالإضافة إلى ذلك، أثبت عرض اللواء جوني عبدو تقديم معلومات كافية لأغراض إعداد التقارير، من خلال اختبار بسيط، أنّه غير كافٍ لمهمّتي. ففي إحدى المرّات، سلّمني قائمة بأماكن البطّاريات السورية المضادّة للطائرات من طراز SA-6 في سهل البقاع، مصحوبة ببيانات دقيقة عن موقع كلّ منها. دفعنا هذا الأمر إلى استطلاع الطريق وأسفر عن تقرير إلى واشنطن يفصّل (ويصحّح) العديد من الأخطاء في قائمة الجيش اللبناني. مرّةً أخرى، أبلغني عبدو عن قصف عنيف ليلاً في شمال لبنان قامت به ميليشيا المردة (الموالية لآل فرنجيّة) المسيحية الموالية لسوريا، استهدف ميليشيات القوات اللبنانية المسيحية المناهضة لسوريا، على بعد أميال قليلة إلى الجنوب. شكرته وتوجّهت شمالاً. توقّفت عند مواقع القوات اللبنانية التي قيل إنّها تعرّضت للهجوم، ثمّ مررت عبر وادٍ خصب يفصل خطوط التلال التابعة للميليشيات، وتوجّهت عبر أراضي المردة. قال الجميع: “كلّ شيء هادئ”.
سمير خادم أكاديمي ودود
في جولاتي في لبنان، سواء من أجل عملي المنتظم أو بسبب معلومات عبدو، أنجزت شيئاً ملحوظاً: لقد أزعجت قليلاً موظّفي أجهزة المخابرات التابعة لوزارة الدفاع في اليرزة. من بين الوظائف الأخرى، كانت لدى هذه الأجهزة مهمّة لا تُحسد عليها، وهي الإشراف على فريق الملحقين العسكريين. ووفقاً للأنظمة والمبادىء التوجيهية المنشورة التي يتّبعها الجيش اللبناني، كان من المقرّر إخطاره بجميع تحرّكات الملحقين خارج حدود بلدية بيروت. كان سمير الخادم هو جهة الاتصال المعتادة. كان ضابطاً في البحرية اللبنانية، وودوداً وأكاديميّاً، وأصبح لاحقاً أميرالاً. حثّني بلباقة وروح دعابة على الالتزام بالقواعد. أخبرته بأنّ رحلاتي لا تنتهك القوانين اللبنانية وتتوافق تماماً مع الحقوق والواجبات لدبلوماسي معتمد. ومع ذلك، فقد بذل قصارى جهده لكبح جماحي. وذات يوم “اعترف” لي بأنّ “قواعد عمل الملحق” لم يتمّ تقديمها مطلقاً بلغة إنكليزية مقبولة، وطلب منّي المساعدة في ترجمتها. فقبلت نقل القواعد، ثمّ قرأت النسخة الإنكليزية بحضوره!
كيف حصلت على عناوين المواقع السورية؟
لقد كانت بيروت نفسها مكاناً لفرص مثيرة لجمع المعلومات والإبلاغ عنها، وليس فقط في حالات تصاعد الدخان من السفارات أو ضربات جوّية لـ”مروحية إرهابية” تمّ تجنّبها. كنت صديقاً لضابط في الجيش اللبناني في غرب بيروت الذي يقوده اللواء سامي الخطيب، الذي تمّ تعيينه ضابط ارتباط مع “قوّة الردع” التابعة للجيش السوري التي كانت متمركزةً في بيروت ووادي البقاع وأجزاء من جبل لبنان. بعد حادث اعتقال “قوات حفظ السلام” السورية لي ولنظيري البريطاني بوكس، قرّرت أن أقوم بزيارة لصديقي اللبناني هذا. بعد زيارة مجاملة وجيزة للجنرال الخطيب، الذي رحّب بزيارتي ووعد بالتعاون الكامل، جلست مع صديقي وشرحت له أنّ موظّفي السفارة الآخرين وأنا نواجه مشكلةً عندما نتجوّل في جميع أنحاء لبنان محاولين الاستمتاع بجمال البلاد الهائل، إذ تعترضنا صعوبات من حين إلى آخر عند نقاط التفتيش السورية. أخبرته عن احتجازي الأخير شمالاً، ولم أذكر بوكس، وأكّدت أنّ هدفي كان زيارة أحد الأديرة. ثمّ طلبت معروفاً: هل يمكنني الحصول على قائمة بالوحدات السورية في لبنان، وربّما مع أسماء القادة والمواقع والأرقام الهاتفية، حتى يتمّ حلّ الحوادث غير المرغوبة بسرعة وهدوء؟
في سفارة بغداد، يواجه الملحقون العسكريون اليوم العديد من التحدّيات التي واجهها زملاؤهم في لبنان في زمن الحرب، ومن بينها الوجود الإيراني والأنشطة المدعومة من إيران التي تكون مميتةً للدولة المضيفة وخطيرةً على الأميركيين المقيمين فيها
ابتسم صديقي وقال: “هل تمانع التعامل مع مستند مكتوب باللغة العربية؟”. أكّدت له أن لا مشكلة. بعد كلّ شيء، لقد ساعدت للتوّ الجيش اللبناني في صياغة نسخة إنكليزية من قواعد وأنظمة الملحقين العسكريين! بعد خمس دقائق، سلّمني القائمة التي طلبتها، وكانت تتألّف من نحو 30 صفحةً من الأسماء والمواقع وأرقام الهواتف. في طريقي إلى الخارج، تذكّرت أنّ لديّ موعداً في اليرزة، وأنّني سأعبر “الخطّ الأخضر” الذي يفصل بين المقاتلين في العاصمة اللبنانية، وسأمرّ عبر نقاط التفتيش السورية وأنا أحمل ظرفاً سميكاً يحتوي على معلومات حسّاسة عن القوات السورية في لبنان. لن أضطرّ فقط إلى اجتياز نقاط التفتيش هذه في طريقي ذهاباً وإياباً، بل سيكون لديّ ذلك الظرف في مقرّ الجيش، حيث سأكون عاجزاً عن الردّ إذا أراد شخص ما أن يأخذه منّي. لكن حالفني الحظ. صعدت إلى اليرزة، وعقدت اجتماعي وعدت. وعلى الرغم من أنّني كنت بحاجة إلى وقت لمعالجة المعلومات وترجمتها بشكل مناسب، فقد تمكّنت من إرسال تقرير كامل إلى واشنطن على دفعات. حقّق هذا التقرير نجاحاً كبيراً، خاصةً بين المحلّلين المهتمّين بالاستعدادات السورية للمعركة في لبنان.
اسرائيل لن تغزو لبنان؟
ومع ذلك، تبعت هذا النجاح الكبير غلطة هائلة. في تقريري الأخير عن لبنان، في ربيع عام 1982، سعيت بناءً على طلب واشنطن إلى الإجابة عن سؤال يدور في أذهان المسؤولين وغيرهم يتعلّق بمسألة مهمّة: هل تغزو إسرائيل لبنان؟
كنت أفكّر كثيراً في هذا السؤال. كان هناك أمران، أو بمعنى ما كان لي تقويمان، مهمّان بشكل خاص. أوّلاً، كان الشيعة اللبنانيون يشتبكون مع القوات الفلسطينية في جنوب لبنان. ثانياً، على الرغم من التحليلات التقليدية وبيانات بعض قادتها، فمن غير المرجّح أن تساهم ميليشيا القوات اللبنانية في شنّ حملة عسكرية إسرائيلية. كانت الانتفاضة الشيعية حقيقيةً. قبل سنوات، كان الوجود الفلسطيني المسلّح موضع ترحيب من السكّان المحليين. على عكس الحكومة البعيدة في بيروت، أبدى الفلسطينيون اهتماماً ببناء المستوصفات وغيرها. لكنّ تبادل العنف بين الفلسطينيين والإسرائيليين دفع في نهاية المطاف شيعة جنوب لبنان بعيداً عن ياسر عرفات وقوّاته، وباتت عليهم الآن مواجهة انتفاضة شعبية إلى جانب المدفعية الإسرائيلية والطائرات المقاتلة الإسرائيلية والرائد سعد حداد المذكور. فلماذا تخاطر إسرائيل بتعقيد مثل هذا التطوّر المرحَّب به؟
يضاف إلى ذلك، أو هكذا حسبت، أنّ القوات اللبنانية لن تردّ على الغزو الإسرائيلي بمساعدة الغزاة على محاربة الفلسطينيين والسوريين. على العكس من ذلك، ستكتسب الميليشيا نفوذاً على حساب لبنانيين آخرين أو ستصفّي حسابات معهم. قلت لنفسي إنّ الإسرائيليين كانوا بالتأكيد على دراية بالأولويّات الاستراتيجية لحلفائهم، كما اعتقدت. وعلى أقلّ تقدير، سيكون للقوات اللبنانية أولويّات أو مصالح متضاربة. إذا لم يكن موقف الحليف الرئيسي رادعاً بحدّ ذاته لغزو إسرائيلي، فمن المؤكّد أنّه مقترناً بالانتفاضة في جنوب لبنان سيؤخذ في الاعتبار بجدّية في القدس وتل أبيب.
الخطأ الكبير..
في واشنطن، أثار تقريري ضجّةً كبيرةً وتمّ الترحيب به على أنّه تحفة تحليلية. ثمّ في أوائل حزيران 1982، أطلق متطرّفون فلسطينيون النار على السفير الإسرائيلي في لندن، وكاد أن يُقتل. بدأ الغزو. القوات اللبنانية، وبدلاً من التنسيق مع حلفائها الإسرائيليين، توغّلت في جبال الشوف لمواجهة الزعيم الدرزي والعدوّ القديم وليد جنبلاط. في البداية، رحّب شيعة جنوب لبنان بالغزاة، لكنّ الوضع لم يدُم طويلاً. كانت العواقب كارثيةً بمرور الوقت. في غضون عام، قاتلت قوات الجيش اللبناني، بدعم من نيران السفينة الحربية التابعة للبحرية الأميركية نيوجيرسي، قوات جنبلاط، مستهدفةً عن غير قصد قوات حفظ السلام التابعة لقوات مشاة البحرية الأميركية العاملة المتمركزة في مقرّ بالقرب من مطار بيروت. في الصباح الباكر من يوم 23 تشرين الأول 1983، تمّ اقتلاع المبنى الذي كان يؤوي هؤلاء المارينز من أساساته وإسقاطه وتدميره بشاحنة مفخّخة تمثّل منظمةً شيعيةً متطرّفةً، ستتبنّى لاحقاً اسم “حزب الله”، وتعمل بأمر من إيران.
لو قرأت إسرائيل تقريري
فجأةً أصبحت قدراتي التنبُّئيّة أو التحليلية موضوعاً للسخرية بعد هذا الخطأ الكبير. بمرور الوقت، تساءلت هل كانت القيادة الإسرائيلية ستتصرّف بشكل مختلف لو أنّها قرأت تقريري ونظرت بشكل أكثر جدّيةً في إيجابيات الغزو وسلبيّاته. ربّما كانوا سيتوصّلون إلى النتيجة نفسها التي توصّلت إليها وتجنّبوا، أو أخّروا، احتلالاً مكلفاً لجنوب لبنان أدّى، من بين أمور أخرى، إلى ولادة حزب الله وسمح لإيران باختراق بلاد الشرق.
في وقت الغزو، شعرت بالسوء لأنّني كنت مخطئاً جدّاً. ألقيت باللوم على نفسي لأنّني كتبت تقريراً لا يأخذ في الاعتبار المتغيّر الأكثر أهميّةً الذي يؤثّر على قرار إسرائيل: القيادة السياسية لإسرائيل وتحيّزات تلك القيادة بشأن المسألة المطروحة. صحيح أنّني كنت متمركزاً في لبنان وليس في إسرائيل، وصحيح أنّني كنت رائداً في الجيش الأميركي، لكن لذلك لم أكن على دراية وثيقة، بالتأكيد ليس مثل الآخرين، بأفكار رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، أو وزير دفاعه المؤثّر أرييل شارون. وربّما كان في وسعي، بل كان ينبغي لي، أن أعدّل تقريري بالإشارة إلى الأهمية الحاسمة لعملية صنع القرار في إسرائيل التي لا تمليها بالضرورة الحقيقة أو على الأقلّ الوقائع. ربّما كان بإمكاني إظهار التعاطف التحليلي نفسه الذي توقّعته من الإسرائيليين عندما كانوا يفكّرون في كيفيّة سلوك اللبنانيين المختلفين. لكن لا: طبّقت نسختي من نموذج الممثّل العقلاني، وخلصت إلى أنّ الغزو الإسرائيلي لن يحدث. كنت مخطئاً.
الدبلوماسيّون يخطئون
خدمت في لبنان قبل أربعة عقود. واليوم، أجد نفسي أفكّر في ما عشته آنذاك في سياق الأحداث الجارية الآن. ليس لديّ أدنى شكّ في أنّ هذه الروايات عن تحدّيات جمع المعلومات والإبلاغ عنها التي واجهتها في الحرب الأهلية اللبنانية لها ما يعادلها اليوم في مكاتب الملحقين العسكريين الأميركيين في جميع أنحاء العالم. أتخيّل، مثلاً، أنّ الملحقين العسكريين الأميركيين في سفارتنا في كييف يقدّمون تقارير وتقويمات، كما فعلت أنا وآخرون في بلاد الشرق، تتناقض مع الافتراض الذي كان سائداً قبل عام بأنّ القوات المسلّحة الأوكرانية ستنهار بسرعة في مواجهة الغزاة الروس، الذين كانوا متفوّقين عددياً، إن لم يكن أكثر. بالإضافة إلى ذلك، ربّما يكون العسكريون الأميركيون في سفارة موسكو قد تمكّنوا من جمع ونقل المعلومات التي تسلّط الضوء على أوجه القصور في الجيش الروسي. وعلى الرغم من أنّها كانت مهمّةً صعبةً، إلا أنّها كانت ممكنة.
في أرمينيا وأذربيجان، أعتقد أنّ الملحقين العسكريين الأميركيين بذلوا قصارى جهدهم للوصول إلى الخطوط الأمامية للقتال الدوري بين البلدين المضيفين. هناك بالطبع توازن يجب تحقيقه بين السلامة والتقارير الميدانية. من الصعب تحديد الطبيعة الدقيقة لهذا التوازن. يميل أفراد الملحقية العسكرية إلى أن يكونوا عدوانيين في الوفاء بالتزاماتهم المتعلّقة بجمع المعلومات والإبلاغ عنها.
في سفارة بغداد، يواجه الملحقون العسكريون اليوم العديد من التحدّيات التي واجهها زملاؤهم في لبنان في زمن الحرب، ومن بينها الوجود الإيراني والأنشطة المدعومة من إيران التي تكون مميتةً للدولة المضيفة وخطيرةً على الأميركيين المقيمين فيها. أمّا لبنان اليوم فليس بالضرورة أكثر أماناً لأنّه أكثر استقراراً أو لعدم غرقه في حرب أهلية. في الواقع، يواجه الملحقون العسكريون الأميركيون وغيرهم من موظّفي السفارة دائماً تحدّيات ومخاطر بسبب العمل هناك، ولا سيّما بسبب النفوذ السياسي والعسكري الكبير الذي يمارسه حزب الله على رفات جمهورية متزعزعة ساعد هو وحلفاؤه في الطبقة السياسية اللبنانية في قتلها.
يلعب الملحقون العسكريون الأميركيون دوراً دبلوماسياً حيوياً في إبقاء واشنطن على اطّلاع دقيق على الأمور السياسية والعسكرية. نعم، إنّهم دبلوماسيون معتمَدون يقدّمون خدمات عسكرية للجيش المضيف، وغالباً ما يشاركون في المناسبات الاحتفالية لتحقيق هذه الغاية. نعم، يقدّمون المشورة للسفير وأعضاء آخرين في فريق السفارة بشأن الأمور العسكرية، لكنّهم يميّزون أنفسهم، ويقدّمون أكبر مساهمة للدبلوماسية الأميركية، من خلال جمع المعلومات والإبلاغ عنها في الوقت المناسب، في ظلّ ظروف صعبة. على الرغم من أنّ لبنان في زمن الحرب قد تمّ وضعه الآن في صفحات التاريخ القديم بالنسبة إلى العديد من الناس العاديّين، إلا أنّ رجال جهاز الملحقين العسكريين الأميركيين ونساءه ما زالوا يلعبون دوراً دبلوماسياً غالباً ما يتمّ تجاهله (أو حتى غير معروف)، في الأوساط الأكاديمية. إنّهم يفعلون ذلك في ظروف مماثلة لتلك التي عرفتُها في لبنان. بالنسبة إلى صانعي القرار في واشنطن، يلعب هؤلاء الدبلوماسيون العسكريون دوراً لا تزال قيمته موضع تقدير عميق.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا
* السفير فريدريك سي هوف دبلوماسي مقيم في كلّيّة بارد، وباحث في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي في واشنطن. خدم ملحقاً عسكرياً في سفارة بلاده في بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، ولاحقاً مديراً لمكتب وزير الدفاع الأميركي للأردن ولبنان وسوريا والشؤون الفلسطينية. يجيد اللغة العربية، وكان المبعوث الأميركي للمرحلة الانتقالية في سوريا عام 2012، بصفة سفير لواشنطن في عهد الرئيس باراك أوباما، وتولّى الوساطة لترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، بين عامَيْ 2010 و2012، وهو صاحب ما يُعرف بـ”خط هوف”. وهو مؤلّف كتاب “الوصول إلى المرتفعات: القصّة الداخلية لمحاولة سرّيّة للتوصّل إلى سلام سوري-إسرائيلي”.
* New Lines مجلّة أميركية للشؤون العالمية تركّز بشكل أساسي على منطقة الشرق الأوسط لأنّ هذه المنطقة، التي كانت لفترة طويلة مركز السياسة الخارجية للولايات المتحدة، بحاجة، بحسب موقع المجلة، إلى تغطية أكبر بكثير من الدبلوماسيين والموظفين الأميركيين الذين عاشوا وعملوا هناك في ظروف الحروب والمخاطر، وليس فقط من أشخاص وُلدوا ونشأوا في الأماكن التي كانوا يقدّمون تقارير عنها.