الوفد القضائي الأوروبي، الذي وصل إلى لبنان من فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ، أنهى الجزء الأوّل من مهمّته، وسيعود في الأسابيع المقبلة ليحقّق مع 18 شخصية جديدة وردت أسماؤها في الاستنابة القضائية سيكون حتماً من بينهم حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وشقيقه رجا سلامة.
غادر الوفد لبنان أمس. أنهى أعماله واستمع إلى من أراد الاستماع إليهم، واطّلع على ما طلب الاطّلاع عليه، وركب القضاة ومرافقوهم الطائرات، وغادروا الأراضي اللبنانية، ومعهم “أسلحة” ربّما تكون عنوان المرحلة المقبلة في لبنان.
توحي خلاصةُ عملهم في غرف التحقيق في قصر العدل بانفجارٍ قريبٍ هو انفجار حقيقة التحويلات الماليّة التي جرت في الأعوام الماضية ودخلت مصارف أوروبية تكبّدت غرامات مالية عقاباً لها على تمنّعها عن التأكّد من مصادر الأموال المرسَلة إليها وفق ما تنصّ عليه القوانين الأوروبية.
أمّا لبنان الذي ارتاح جسمه القضائي بعد أسبوع حافل بالتحقيقات مع شهود سُجّل لهم تعاونهم مع الوفد الأوروبي، فلا يزال يترقّب عاصفة نتائج التحقيق.
يدرك القاصي والداني أنّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة “لن يسكت” عن القوى السياسية التي شاركته في التحويلات المالية إذا ما كُشف أمره وتمّت ملاحقته أوروبيّاً، فيما كلّ شيء يشير إلى أنّ العاصفة آتية لا محالة.
تفيد المعلومات أنّ القضاء الأوروبي يملك إثباتات تبيّن حقيقة المبالغ المالية المحوَّلة من مصرف لبنان إلى حساب الشقيقين سلامة في المصارف الخمسة المعروفة
في الجزء الأول من مهمّة الوفد، حقّق القضاة مع عدد من نوّاب حاكم مصرف لبنان السابقين ومصرفيّين، وأمّا المشتبه به الوحيد نبيل عون فغاب عن التحقيق بسبب وجوده خارج لبنان، وسيخضع له في لوكسمبورغ لاحقاً.
عويدات: حصلوا على كلّ شيء
يقول مدّعي عام التمييز القاضي غسان عويدات لوسائل الإعلام وأمام زوّاره إنّ الوفد القضائي، خصوصاً القضاة من لوكسمبورغ، أصبح يملك ما يكفي من أدلّة وإثباتات على حجم التحويلات المالية وتبييض الأموال الحاصل عبر شركة “فوري”، وكان طلب التعاون القضائي اللبناني فقط ليطابق المعلومات التي يملكها أصلاً.
إذاً ليست هذه الزيارة نزهة. فالقضاء الأوروبي يعمل منذ فترة على كشف حركة الأموال من وإلى لبنان وأوروبا. وهو يملك ما يكفي من الأدلّة لإدانة المرتكبين.
تفيد المعلومات أنّ القضاء الأوروبي يملك إثباتات تبيّن حقيقة المبالغ المالية المحوَّلة من مصرف لبنان إلى حساب الشقيقين سلامة في المصارف الخمسة المعروفة، ومن بينها تحويلات إلى حسابات سلامة تفوق 220 مليون دولار تمّ تبييضها بوسائل مختلفة ومن دون مبرّرات قانونية بالنسبة إلى المصارف الأوروبية.
أصبح ملفّ التحقيقات مكتملاً، خصوصاً بعد التحقيق مع الشهود، إذ بات يتضمّن معلومات مفصّلة عن التحويلات المالية وصلاحيات المصرف المركزي. وكانت مهمّة الوفد قد ركّزت على معرفة طرق التعامل بين المصرف المركزي والمصارف في ما يتّصل ببيع سندات اليوروبوندز، والجهات التي تتقاضى العمولة، والأساليب المعتمدة لبيع اليوروبوندز.
نشرت صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية خريطة حركة الأموال من المصرف المركزي اللبناني إلى شركة فوري والمصارف اللبنانية والأوروبية، وبيّنت عمليّات شراء ممتلكات في أوروبا، وذلك بناء على التحقيقات الأوروبية المثبتة. وعلى هذا الأساس، يدرك أهل السياسة والمال في لبنان أنّ زوبعة مقبلة عليهم ستهدّد مواقعهم وحساباتهم ونفوذهم، وستضعهم في خانة المرتكبين، لكن هذه المرّة بقرار أوروبي جامع.
في المعلومات أيضاً أنّ القوى السياسية تعتقد أنّه في حال ادّعاء القضاء اللبناني على حاكم مصرف لبنان، فإنّ ذلك سيبطئ سير التحقيق الأوروبي
فما هو هدف الوفد؟
في قراءة خلفيّات عمل الوفد ثمّة نظريّتان مطروحتان:
الأولى تقول إنّ الغاية من هذه التحقيقات هي إثبات حصول تبييض أموال من أجل وضع يد العواصم الأوروبية على الأموال والعقارات الناتجة عن هذا الجرم في الخارج.
الثانية تشير إلى أكثر من ذلك ربطاً بتصويت مجلس النواب البلجيكي بالإجماع على قرار ينصّ على دعم مكافحة الفساد وتفعيل العقوبات على الملاحَقين بجرائم ماليّة في لبنان وأوروبا.
اعتبر “المرصد الأوروبي للنزاهة” هذا القرار سابقة في برلمان أوروبي لأنّه يحمل صفة “القانون”، مشيراً إلى أنّه “في الأسباب الموجبة للقرار تمّ ذكر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة.”
اللافت في الخطوة هذه كلامٌ صدر عن النائب البلجيكي ماليك بن عاشور، الذي تقدّم بالقرار في تشرين الأول من عام 2021، قال فيه: “يجب أن تتوقّف السرقة الممنهجة للمال اللبناني من قبل طبقة سياسية مالية”، لافتاً إلى أنّ “لجنة الخارجية في البرلمان البلجيكي تصوّت على نصّ القرار الذي تقدّمتُ به لتمهيد الطريق أمام عقوبات أوروبية ضدّ المرتكبين”.
يمكن وضع هذا الكلام في سياق التشديد الدولي في دعوة الطبقة السياسية اللبنانية إلى وقف الهدر والسرقة وتنفيذ الإصلاحات. يقول أحد المراقبين: “متى أرادت إحدى القوى القبض على زعيم أو رئيس حزب يجب أن تقبض على من يتولّى حساباته، فهل بدأ القبض على السياسيين اللبنانيين من بوّابة رياض سلامة؟”.
ماذا في التداعيات اللبنانيّة؟
في كواليس السياسة اليوم بحث معمّق في كيفيّة الحدّ من تأثيرات عمل الوفد القضائي، وكلام عن ادّعاء القضاء اللبناني على سلامة. وقد وردت معلومات تفيد بأنّ القاضي رجا حاموش سيدّعي على سلامة.
في المعلومات أيضاً أنّ القوى السياسية تعتقد أنّه في حال ادّعاء القضاء اللبناني على حاكم مصرف لبنان، فإنّ ذلك سيبطئ سير التحقيق الأوروبي لأنّ دخول الملفّ مسار القضاء المحلّي يمنع القضاء الأوروبي من إصدار أيّ أحكام فيه. غير أنّ هذا السيناريو سيمنع الطبقة السياسية من التجديد لرياض سلامة بعد انتهاء ولايته، وهو أمر لا يزال قيد الدرس.
إقرأ أيضاً: أمن الدولة من “وليام” إلى ستيفاني… ورياض!
تتحدّث المعلومات المرافقة لسير عمل التحقيق الأوروبي عن إصدار مذكّرات توقيف في أوروبا بحقّ “المرتكبين”، بحيث يتحوّل ملفّهم إلى الإنتربول، وبالتالي لن يكون الأمر إجراءً محدود الأثر وحسب، بل سيكون فضيحة محليّة دولية.
تقول مصادر قضائية إنّ لبنان دخل نفق المحاسبة المالية، والعودة عن ذلك مستحيلة. إلا أنّ من يعرف المصالح الدولية، وخصوصاً الأميركية، التي تحمي رياض سلامة، يدرك أنّ هذا الملفّ يمكن أن يتحوّل إلى مضبطة اتّهام للطبقة السياسية اللبنانية كلّها، الأمر الذي يسهّل ابتزازها وخضوعها للشروط الدولية، بدءاً من الملفّ الرئاسي وصولاً إلى الملفّات الأخرى.
أمّا التحقيق في تفجير مرفأ بيروت فكان بدوره مدار بحث بين القضاة الفرنسيين، وسط معلومات عن تحريك ملفّ الموقوفين قريباً عبر قاضي التحقيق نفسه طارق البيطار.
لمتابعة الكاتب على تويتر: josephinedeeb@