الكهرباء… ثمّ الكهرباء ثمّ الكهرباء. على اللبنانيين أن يصدّقوا أنّ أكثر ما يهمّ الدوائر الدولية المعنيّة بالأزمة في لبنان وبمأزق الفراغ الرئاسي المستعصي، هو إصلاح الكهرباء.
قد يسخر بعض السياسيين اللبنانيين حين يُقال لهم إنّ كبار القادة والرؤساء ومعاونيهم يقدّمون مشكلة الكهرباء على مسألة شغور الرئاسة في البلد، لاعتقادهم، عن صواب، بأنّ معالجة ما يعانيه البلد من مشاكل، ومن ضمنها الكهرباء، تبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية لإعادة النشاط إلى المؤسّسات المعنية بإيجاد الحلول أو بتطبيق الحلول المعروفة منذ سنوات تحت عنوان الإصلاحات، وتشكيل حكومة جديدة بمواصفات القدرة على إجراء هذه الإصلاحات، بعد تسمية رئيس للحكومة يتطابق مع هذه المواصفات. وهذا ما يردّده سفراء هذه الدول الذين يتابعون تفاصيل العوائق التي تعطّل انتخاب الرئيس. وتدرك عواصم القرار ذلك مثل الفرقاء اللبنانيين. والدليل هو استمرارها بالتشديد، منذ ما قبل الفراغ الرئاسي بسنة، على وجوب إجراء الاستحقاق الرئاسي في موعده. ثمّ باتوا يدعون إلى تسريع إنهاء الفراغ في البيانات والتصريحات كافّة، ويردّدون لازمة أنّ “الرئاسة شأن داخلي”، ويعتبرون أنّ موقف “حزب الله” سبب الفراغ.
أثار بوحبيب مسألة العقوبات المفروضة على سوريا بموجب قانون “قيصر” التي تعيق نقل الكهرباء الأردنية والغاز المصري عبر أراضيها، فقابله هوكستين، مثل الجانب الفرنسي، بالإلحاح على أن تستكمل الحكومة الإجراءات التي تتيح إقرار البنك الدولي القرض المطلوب
لكن حين يبحث من يقومون بإعداد القرارات أو التوجّهات لخطط التعاطي مع لبنان وأزمته في أروقة وزارات خارجية العواصم الكبرى والدوائر الرئاسية وبعض السفارات في بيروت، وبدرس الخطوات العملية التي عليهم إقرارها في شأن البلد الصغير، وفي معرض البحث في ما يمكن لقادة المستوى الأول القيام به، يتوقّفون عند أزمة الطاقة المزمنة، التي يعرفون بالتفصيل المملّ الفضيحة التي تمثّلها منذ ما يناهز عقدين، ومَن هي الجهات المسؤولة عنها.
حجج الغرب.. اقتنع اللبنانيون أم لم يقتنعوا
تلك العواصم، سواء اقتنع الفرقاء اللبنانيون أم لم يقتنعوا، قد حسمت أمرها وقرّرت أنّ إيجاد المخارج للأزمة الأساس في هذا الظرف، أي الفراغ الرئاسي، ليس في يدهم. وهم يسلّمون بأنّهم عاجزون عن أيّ خطوة تؤدّي إلى ملء الفراغ لأسباب عدّة تبدأ بالاعتراف بأنّ تأثيرهم على بعض الفرقاء قد يقود إلى اقتناع هؤلاء برأيهم وترجيح كفّة ذلك على ذاك ممّن يفضّلونهم من المرشّحين في الموقع الأوّل في السلطة، لكنّ ذلك لن ينفع في ضمان نجاح الأمر إذا لم يقتنع به “حزب الله” الذي يفضّل مرشّحاً يرتاح إليه خلال السنوات الستّ المقبلة. ولذلك من الأفضل عدم الانغماس في لعبة تأييد هذا الاسم أو ذاك لتفادي الفشل في إيصاله لأنّ التأييد الغربي له لن يضمن نجاحه في تولّي الرئاسة، بل سيكون موضوع شكوك ورفض من “الحزب”، وبالتالي من حلفائه.
ثمّة حجّة أخرى تُساق في هذا المجال: إذا افترضنا نجاح التدخّلات الغربية في لعبة الأسماء فإنّ ما يدعو إلى تجنّبها هو أن يفشل الرئيس الذي تسمّيه في تحقيق تقدّم في حلّ الأزمات المتراكمة والمعقّدة، فتتحمّل هي مسؤوليّة الفشل.
أسباب جوهريّة لاستحالة التدخّل مع إيران في الرئاسة
زاد من استبعاد هذا السيناريو، الذي ما يزال بعض اللبنانيين يراهن عليه من باب التمنّيات، أنّ العلاقة بين الأوروبيين، ولا سيّما الفرنسيين، والإيرانيين تدهورت إلى أدنى مستوى، بحيث يكاد يكون التواصل بين الطرفين منقطعاً ويستحيل معه الطلب إليها أن تتدخّل لدى “حزب الله” كي يسهّل إنهاء الفراغ الرئاسي. وهذا التدهور له أسباب جوهرية تفوق لبنان أهميّة، وهي ثلاثة:
أولاً: الإجراءات العقابية الأوروبية والأميركية ضدّ طهران بسبب قمعها التحرّكات الاحتجاجية في الداخل، والردّ الإيراني العنيف عليها.
ثانياً: حسم دول الغرب أنّ الحكم الإيراني المتشدّد بسبب قرب الرئيس إبراهيم رئيسي من “حرس الثورة” الإيرانية، ليس مستعدّاً للعودة إلى اتفاق الحدّ من أعمال برنامجه النووي، وبالتالي لا مفاوضات بالواسطة بين دول أوروبا والولايات المتحدة وبين طهران، في وقت باتت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن أقرب إلى الاستنتاج أنّ القيادة الإيرانية تصرّفت على نحوٍ يُكسبها الوقت من أجل عبور عتبة القدرة على تخصيب اليورانيوم الذي يتيح إنتاج قنبلة نووية. وصلت واشنطن إلى هذا الاستنتاج بعدما قدّمت والاتحاد الأوروبي في شهر آذار الماضي اقتراحات لبتّ الخلافات المتعلّقة بإحياء مفاوضات فيينا، فنسفتها طهران ووضعت شروطاً ومطالب جديدة. أمّا الآن فإنّ ما كان معروضاً في آذار لم يعد يفي بالغرض.
ثالثاً: تموضع الجانب الإيراني إلى جانب روسيا في حربها ضدّ أوروبا وأميركا في أوكرانيا، وصولاً إلى تزويد طهران الجيش الروسي بالطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية مقابل حصولها على وسائل دفاع جوّي وطائرات حربية. وهذا يشكل تجاوزاً للخطّ الأحمر بالنسبة إلى أوروبا قبل أميركا.
مصدر سياسي لبناني: خلال زيارة بوحبيب لواشنطن أواخر الشهر الماضي، أبلغه مسؤول ملف الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض بريت ماكغورك أنّ هوكستين، يودّ المشاركة في جانب من الاجتماع ليتحدّث عن ملف الكهرباء في لبنان
اجتماع باريس
إذا كانت العلاقة الراهنة بين الدول الأوروبية وأميركا وبين إيران عدائيّةً بسبب ملفّات كبرى بهذا الحجم، فإنّ من شبه المستحيل أن تتوسّل هذه الدول وساطة الأخيرة في الملف الرئاسي اللبناني. وبالتالي يصعب توقّع أيّ رهان كهذا لدى الفرقاء اللبنانيين. وسبق للأمين العام لـ”حزب الله” أن قطع الطريق على ذلك.
حتى في اجتماع باريس المنتظر مطلع الشهر المقبل، الذي تسرّبت أنباء أنّه على مستوى مديري الشرق الأوسط والمستشارين في كلّ من فرنسا وأميركا والسعودية وقطر ومصر، تمهيداً لاجتماع ثانٍ على مستوى أعلى وزاري، مع دعوة دول أخرى، فإنّ أقصى ما يُتوقّع منه لن يتجاوز الضغط السياسي والإعلامي لاستعجال إنهاء الفراغ، كما تؤكّد المصادر الفرنسية المعنية بالملف اللبناني. لكنّه سيتناول ملف الكهرباء من الزاويتين القريبة المدى والمتوسطة المدى، لإيجاد حلول لهذه المعضلة تقوم على تشجيع الجانب اللبناني على استكمال الإجراءات المطلوبة من البنك الدولي، من أجل الحصول على قرض لتمويل استجرار الغاز المصري عبر الأردن وسوريا لتزويد معامل الكهرباء به، واستجرار الكهرباء من الشبكة الأردنية. وهناك استحسان غربي لمباشرة الحكومة هذه الإجراءات بإعلان وزارة الطاقة قبول ترشيحات لعضوية الهيئة الناظمة للقطاع، وبقرار رفع التعرفة على أن يُستتبع بخطة تضمن سداد القرض.
الكهرباء بين بايدن وماكرون وهوكستين وبوحبيب
من الأمثلة، التي يسوقها مسؤولون غربيون على إعطائهم أولوية لملفّ الكهرباء أثناء تداولهم مع سياسيين ومسؤولين لبنانيين في أزمة البلد، ما يستدعي دهشة بعض هؤلاء. هذا ما حصل حين تبلّغ هذا البعض بأنّ القمّة الأميركية الفرنسية التي جمعت الرئيس بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في واشنطن في الأول من كانون الأول الماضي، تطرّقت إلى ملف الكهرباء، أثناء تداولهما على عجل أزمة لبنان، على الرغم من أنّ الملفّات التي كانت على أجندة القمّة أكثر أهمية بأضعاف من أزمة لبنان على الصعيد الدولي، بدءاً من حرب أوكرانيا والمواجهة مع روسيا، إلى الوضع الاقتصادي العالمي والطاقة وسلاسل الإمداد.
يقول مصدر سياسي لبناني إنّه خلال زيارة وزير الخارجية اللبناني عبد الله بوحبيب لواشنطن أواخر الشهر الماضي، أبلغه مسؤول ملف الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض بريت ماكغورك، أثناء اتفاقهما على موعد اللقاء، أنّ كبير مستشاري الخارجية الأميركية لأمن الطاقة، والوسيط في ملف محادثات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل آموس هوكستين، يودّ المشاركة في جانب من الاجتماع ليتحدّث عن ملف الكهرباء في لبنان. في ذلك الاجتماع كرّر ماكغورك الموقف الأميركي والغربي بوجوب إسراع اللبنانيين في إنهاء الفراغ الرئاسي، وأنّ واشنطن لا تستطيع القيام بذلك نيابة عن اللبنانيين. وفهم بوحبيب أنّ واشنطن لا تكترث لاسم الرئيس. أمّا هوكستين فأراد إيصال رسالة بأن يستعجل لبنان الإجراءات التي تسرّع معالجة أزمة الكهرباء، مشدّداً على أنّ إنجاز اتفاق ترسيم الحدود مع إسرائيل يجب أن يُستثمر ويستفيد منه لبنان من أجل التعافي الاقتصادي. فلا اقتصاد بلا كهرباء. ومع بدء شركة “توتال” استعداداتها اللوجستية من أجل بدء الحفر في البلوك 9، سيشهد لبنان بعض الاستثمارات ومئات الوظائف لأجانب ولبنانيين والكثير من الخدمات التي ستقدّم بموازاة عمل الشركة الفرنسية من النواحي كافّة، فكيف ستحصل هذه الاستثمارات من دون كهرباء؟
إقرأ أيضاً: حزب الله: لا لخطّة فيّاض!
الخارج يدير مرحلة الفراغ؟
أثار بوحبيب مسألة العقوبات المفروضة على سوريا بموجب قانون “قيصر” التي تعيق نقل الكهرباء الأردنية والغاز المصري عبر أراضيها، فقابله هوكستين، مثل الجانب الفرنسي، بالإلحاح على أن تستكمل الحكومة الإجراءات التي تتيح إقرار البنك الدولي القرض المطلوب، وستكون واشنطن على استعداد، وربّما بايدن شخصياً، للطلب إلى البنك الدولي استعجال إقراره. أمّا بالنسبة إلى قانون قيصر فسيكون المخرج لإعفاء مصر والأردن من العقوبات أن لا تستفيد دمشق ماليّاً من الغاز المصري أو الكهرباء الأردنية.
من السهل استخلاص الحصيلة السياسية من الاهتمام الغربي بالكهرباء، وتقديم الدول المعنيّة المساعدات للبنان في هذه المرحلة، فتساعد أميركا وقطر الجيش، وتدعم فرنسا المؤسّسات التربوية، فيما تقدّم السعودية ومصر العون في المجالات الطبية والاستشفائية والغذائية. فهي تساهم في إدارة فترة الفراغ الرئاسي التي قد تطول من دون أن تكون لديها القدرة على المساهمة في إنهائه، منعاً لانهيار البلد بالكامل، وفي انتظار اللحظة المؤاتية لانتخاب رئيس.