يخال المرء أنّ المفكّر منح الصلح كان “نبيّاً سياسياً” يقرأ مآلات السياسات اللبنانية، وعلى وجه الخصوص الصعبة منها التي أمعن فيها تمحيصاً، واللبنانية التي تناولها من “لبنانية الكبار”.
عودة إلى الحرب؟
يصحّ حديث الصلح في مقاربة إطلالات قائد القوات اللبنانية سمير جعجع.
“اللبنانية الصعبة” هي أن يكتشف اللبناني الفرد مواطنيّته اللبنانية على نحو دائم، لا أن يكون سائحاً في لبنان. وكان مرجوّاً منه اكتشاف الهويات الكثيرة وهواجس الأهل والجماعات. بلغ منح الصلح ما بلغه في معاينة “اللبنانية الصعبة” يوم صار محسوماً أنّ فوهات البنادق هي التي تقرّر وجهة البلد دولةً وأهلاً وجماعات. لم يكن توصيف الراحل من بنات الخيال. كان شديد الصلة بالوقائع السياسية.
لا حلّ للمسلمين والمسيحيين والعلمانيين والملحدين إلا بالعودة إلى الدستور ووثيقة الوفاق الوطني في الطائف، وإلى قرارات الشرعية العربية والدولية 1559 و1701 و1680 و2650. مَن لديه حلٌّ آخر فليتقدّم به
مع رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع سنكتشف ما هو أصعب. فهو يعرض علينا دولةً بديلة على مقاس تفكيره الأهلي. أمّا مغالطته للأمين العام لحزب الله في قراءته الواقع اللبناني، فأمر عاديّ. ذلك أنّ الأمين العامّ يقرأ في كتاب “ولائي” يعني فئة من اللبنانيين بدينها ودنياها. لكنّ ما يجدر التوقّف عنده هو استطرادات سمير جعجع في ذهابه إلى القول إنّ لديه دولةً قادراً على طرحها.
كان جعجع قد قبل على مضض “الاتفاق الثلاثي” (بين الأستاذ نبيه بري وإيلي حبيقة ووليد جنبلاط في دمشق مطلع الثمانينيات) بوصفه تفاهم المُساكنة بين الطوائف، قبل أن ينقلب عليه ويذهب لاحقاً إلى “اتفاق الطائف” بما هو مناصفة بين المسلمين والمسيحيين على قاعدة نهائية الكيان وعروبته.
كان كلّ هذا هباءً؟!
ما لا يريد أن يعرفه جعجع هو أنّه لا وجود لأزمة للمسيحيين وأخرى للمسلمين. وغير صحيح أنّ هناك حلّاً للمسيحيين وحلّاً آخر للمسلمين. هناك حلّ لبناني وطني للجميع يرتكز على العودة إلى الدستور واتفاق الطائف وقرارات الشرعية الدولية 1559 و1701 و1680 و2650. إذذاك يتبيّن أنّ كلّ ما قيل عن جعجع وبراعته التكتيكية وخسرانه الاستراتيجي لا يحظى بأيّ وجه من وجوه الدقّة، فلطالما خلط الرجل في التكتيك والاستراتيجية. يقول تاريخه ما هو أوضح من ذلك: تاريخه من تاريخ الحرب الأهلية. وكلّما احتدمت وقائع البلد عاد يتذكّر سيرته الأولى.
الأزمة وطنيّة
أوّل من بدأ المعضلات السياسية والدستورية كان جعجع. كان يريد دوماً الانتقال من الأكبر إلى الأصغر. وكانت الدلالة الحاسمة على بصره مناداته بانتخابات نيابية مُبكرة مقابل عدم المسّ بموقع رئاسة الجمهورية. لم تحصل هذه ولم يوفَّق إليها سبيلاً. اعتبر من جديد أنّ الانتخابات النيابية لحظة سياسية حاسمة في مسار البلد، رافضاً أن يقرّ بحقيقة جوهرية مضمونها وجوهرها أنّ لبنان كلّه في حال وضع اليد عليه. وحصلت الانتخابات ولم يتغيّر أيّ شيء بل مزيد من الفوضى النيابية.
يعبّر المسيحيون عن الأزمة الوطنية برغبتهم في الانفصال. السُّنّة يبحثون عن إدارة سياسية رديفة. ينتظر الدروز “كي تنجلي المواقف”. ويعتبر الشيعة أنّهم “طائفة نوويّة” ويريدون الثمن.
يؤكّد هذا كلّه أنّنا في خضمّ أزمة وطنية، وأنّ كلّ طائفة تحاول طرح الأزمة وفقاً لمعاييرها. الخطأ الجسيم هو التهديد بالانسحاب من الحياة الوطنية. ليس صحيحاً أنّ هناك أفراداً أو مجموعات أحقّ من غيرها في الوطن الصعب وفي “اللبنانية الصعبة”.
يخال المرء أنّ المفكّر منح الصلح كان “نبيّاً سياسياً” يقرأ مآلات السياسات اللبنانية، وعلى وجه الخصوص الصعبة منها التي أمعن فيها تمحيصاً، واللبنانية التي تناولها من “لبنانية الكبار”
شجاعة خرقاء؟
أهمية سمير جعجع الوحيدة أنّ “14 آذار” نقلته من سجنه في وزارة الدفاع إلى وجدان اللبنانيين والعرب. لكن ما يُغفله قائد القوات اللبنانية أنّه هو نفسه مَن نحر “14 آذار” يوم قال إنّ الطوائف هي أولى بأبنائها. كان اغتيال جبران تويني إنذاراً شديداً بأنّنا قد دخلنا مساراً صعباً جداً. يومذاك أدار جعجع للأمر أذنه لعناوين أخرى.
ما يستدعي النقاش مع قائد القوات اللبنانية هو تلويحه بسحب الشراكة. حسناً، فلنصدّق “شجاعته”. لكن ماذا فعل في اعتداءات 7 أيار التي اعتُبرت حرب مسلمين مع مسلمين؟ وكيف تصرّف مع الاعتداءات ووضع اليد على العقارات من جرود جبيل وصولاً إلى عين إبل؟ لم نسمع له صوتاً في بداية حزب الله في الحرب السورية والعراقية واليمنية. وهذا ما أفضى إلى عزل لبنان عن الإقليم والمجتمع الدولي.
آنذاك سكت سمير جعجع على كلّ انتهاكات الدستور، فيما تباهى فريق طائفي ومذهبي بحيازته 150 ألف صاروخ وبأمر من إيران. أجاب جعجع آنذاك بانتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، كي يعوّض “الخسارة” في اتفاق الطائف.
صدمة الإطلالة الأخيرة
لا حلّ للمسلمين والمسيحيين والعلمانيين والملحدين إلا بالعودة إلى الدستور ووثيقة الوفاق الوطني في الطائف، وإلى قرارات الشرعية العربية والدولية 1559 و1701 و1680 و2650. مَن لديه حلٌّ آخر فليتقدّم به.
كان يُفترض أن تحمل إطلالة جعجع الأخيرة على محطة “الجديد” مجموعة من الرسائل السياسية إلى الخصوم والحلفاء، لكنّها ارتدّت عليه بمجموعة من الأسئلة. ما قاله قائد القوات اللبنانية كان صادماً، خصوصاً حينما تحدّث عن شكل النظام في لبنان، وترك مجموعة من علامات الاستفهام عن التوقيت والمغزى والهدف. كان مذهلاً ما ساقه من تنظير سياسي:
1ـ في كلامه عن شكل النظام والخيارات المقترحة، وجّه ضربة لجميع مواقفه السابقة المتعلّقة باتفاق الطائف وضرورة الالتزام به وتطبيقه.
2 ـ حليفاً للمملكة العربية السعودية بدا غير متماهٍ مع اتفاق الطائف.
3 ـ قام بـ “دعسة ناقصة”، فتحت “تمريرة” غير مقصودة لـ”حزب الله” جعلت الأخير يبدو أكثر منه حرصاً على اتفاق الطائف (راجع كلام الحزب الذي قال فيه ردّاً على جعجع إنّه متمسّك باتفاق الطائف وحريص على التوازنات).
4ـ كلامه أظهر ضعف خطابه داخل الطائفة المسيحية، بل بدا كمن يسعى إلى المزايدة على خطاب باسيل التحريضي، أو يحاول خطف الأضواء منه في هذه الزاوية.
5ـ خدش كلامه المزاج الإسلامي، الذي وقف إلى جانبه في الانتخابات النيابية الأخيرة وساهم في نفخ عضلاته البرلمانية.
6 ـ ينسى جعجع أنَّ مقبوليّته تنطلق من علاقته بالآخرين. وبهذا الكلام بدا مسيحياً فقط، بل مسيحياً يحنّ إلى الانعزال.
7 ـ عكس جعجع بكلامه خوفاً أو توجّساً من باسيل الذي سعى إلى الانفتاح على عدد من الدول العربية. وهذا شأنه، لكن لا يمكن تحميل اللبنانيين عبء أوزاره.
أهمية سمير جعجع الوحيدة أنّ “14 آذار” نقلته من سجنه في وزارة الدفاع إلى وجدان اللبنانيين والعرب. لكن ما يُغفله قائد القوات اللبنانية أنّه هو نفسه مَن نحر “14 آذار” يوم قال إنّ الطوائف هي أولى بأبنائها
ابتسامة مريم نور
سيرة جعجع المديدة لا تنبىء بالراحة. حتى المستجدّ من وقائعها لا يُرتجى منه خيراً. الابتسامة التي يطلّ بها تبعث على الملل. هو لا يريد مغادرة ماضيه. لم يترك شيئاً إلّا وفعله ليُثبت فرادةً سياسية، لا طائل منها في “الوطن الصعب” ولا في “اللبنانية الصعبة”. يطلّ على اللبنانيين كمن ينتظر دعوى تطويبه قدّيساً. أحياناً يُظهر “طوباوية سياسية” من نوع “أوعى خيّك”. لكن سرعان ما تتبدّد هذه الصورة مع التذكّر والتفكّر في “اتفاق المحاصصة على المسيحيين”: تفاهم معراب مثالاً.
في أحايين كثيرة يبعث جعجع على المرح وتزجية الوقت. يتبدّى ذلك جليّاً عندما يطلّ من قلعة معراب لـ”إرشاد” الساسة اللبنانيين إلى الصواب السياسي من أجل بناء على هواه ومثاله. غالبية الساسة اللبنانيين هم حقل رماية لأهدافه:
– يستهدف الرئيس سعد الحريري.
– يساجل حزب الله على مثال “زجليّ”.
– يغيب عندما يبدأ الكلام عن “نظافة الكفّ”.
– قلقه الأكبر من القادة المسيحيين الآخرين.
– الأهمّ عنده ما يرفعه جبران باسيل من سقوف سياسية. كلّ مرويّاته السياسية هناك.
– هو أبرع في توزيع العداوات. يؤكّد ذلك ما أُشيع عن اشتباكاته الدونكيشوتية حتى مع الجيش اللبناني. وهذا حسب تقرير أعدّته دائرة اغتراب قواتية ورفعته إلى واشنطن.
رهين المحبسين
لا يزال سمير جعجع رهين المحبسين:
– الماضي الحربي.
– السعي إلى تصدّر المسيحية السياسية.
إقرأ أيضاً: حديث جعجع عن الفدرالية… خدمة “مجّانيّة” لباسيل
يجيد لعبة الطوائف: “التقيّة” التي تُعلن غير ما تُضمر. يعمل على مثال طوائفي. يُحابي حزب الله من تحت الطاولة حتّى صمّ آذاننا عن “طهرانية وظائفية في الحكومات”. لكنّه يسابق حزب الله في العسكرة والتسلّح حتى صارت القوات اللبنانية أقوى ممّا كانت عليه في زمن (الرئيس) بشير الجميّل على حد الروايات المنتشرة منذ حديثه إلى وليد جنبلاط في منزل نعمة طعمة.
لطالما اشتهر “حكيم القوات” بخوضه “الحروب” باسم “الدفاع عن المسيحيين”: من حرب الجبل وشرق صيدا وإقليم الخروب وصولاً إلى حروبه مع ميشال عون.
من لديه هذه السيرة يستحيل عليه أن يفهم “اللبنانية”. والأشدّ استحالة هو فهم “اللبنانية الصعبة” التي عاينها كبير من وزن المفكّر مُنح الصلح.
ليت سمير جعجع يستذكر مقولة البطريرك الكبير الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير عن أنّ الموارنة خلقوا من أجل لبنان، وليس العكس. والعكس يعني أنّ الموارنة بُناة لبنان الكبير، وما يزالون أسرى لبنان زمن المتصرّفية. وهذا يبعث على قلق كبير.