الطائفيّة باليمن: الحوثيّة تكرّسها بالتسلّط والقتل

2023-01-14

الطائفيّة باليمن: الحوثيّة تكرّسها بالتسلّط والقتل

مرّت اليوم مئة سنة على “اتفاقيّة دعَان” أو “صُلح دَعّان” الذي دشّن الخطاب الطائفي المقنّع في السياسة اليمنية. وفي سنة 2014 دشّن الزحف الحوثي الميليشيويّ على العاصمة اليمنية صنعاء بداية انتقال اليمن من الطائفية المستترة إلى الطائفية الصريحة والفجّة أو العارية. أمّا تلك الاتفاقية فعقدها الإمام يحيى حميد الدين مع العثمانيين في مرحلة انهيار سلطنتهم، مؤسّساً بها مملكته السياسية الخاصّة سنة 1911.

بين المذهبيّة والطائفيّة

عرف اليمن المذهبية منذ دخوله تحت السيطرة الإسلامية: استوطن المذهب الزيدي في الشمال، واستوطن المذهب الشافعي في الوسط والجنوب. أمّا الطائفية فظاهرة حديثة لابست تكوّن اليمن الحديث أو المعاصر وغذّتها النخب الحاكمة في أعلى مراتب الهرم الاجتماعي، وعملت على توطينها في قاعدته.

‏بدأت شرارة الطائفية الأولى مع صعود نجم الإمام يحيى حميد الدين الذي قاتل السلطنة العثمانية من أجل أن يؤسّس مملكته السياسية الخاصة. وكانت وثيقة “صُلح دَعّان” تتضمّن اعترافاً بالإمام يحيى حميد الدين إماماً على الطائفة الزيدية، وإقراراً بوضع خاصّ للشوافع يمكّنهم من تأسيس محاكم شرعية خاصّة بهم.

‏‏أثارت الاتفاقية غضب سكان المناطق الزيدية والشافعية، إذ اعتبروها خيانة لتطلّعاتهم إلى تأسيس كيان سياسي يمنيّ جديد كانت نخبهم المتعلّمة والمثقّفة تريد أن يكون شبه دستوري. وظلّ اليمنيون من المذهبين الزيدي والشافعي يرتادون المساجد عينها ويصلّون ويقيمون مناسباتهم الدينية فيها.

‏بعد فشل ثورة 1948 ضدّ الإمام وتشتُّت قادتها عمّمت مشاعرُ اليأس نغمةً طائفية تقول إنّ الخلاص من حكم الإمامة المتخلّف يقتصر على اليمن الأسفل الشافعي

الإماميّة الزيديّة

يرى الدكتور أبو بكر السقّاف أنّ دولة الإمامة في اليمن الشمالي دولة مستحيلة، ليس لأنّها دولة مذهب مسيطر فحسب، بل لأنّها دولة بعض اليمنيين (أقلّيّة الهاشميين – العدنانيين) في مواجهة السواد الأعظم من اليمنيين. لذا بدأت المقاومة الشعبية ضدّها في المناطق الزيدية قبل أن تبدأ في المناطق الشافعية.

‏تمكّن الإمام يحيى من إخماد الانتفاضة في مناطق اليمن الأعلى (الزيدية)، فأحدث ذلك شرخاً اجتماعياً خطيراً قسّم اليمنيين إلى قحطانيين وعدنانيين. ولمّا أخضعت قوّات الإمام يحيى مناطق الشوافع، شاب الطائفية الانقسام الاجتماعي نتيجة ممارسات الإمام وقوّاته: تقييد حرّيات الشوافع والمبالغة في جباية الزكاة منهم.

كرّست مملكة الإمام يحيى الطائفية جاعلةً منها علاقات سلطة في اليمن الشمالي، فصار الشطر الزيدي من البلاد يسمّى اليمن الأعلى، وعُرف الشطر الشافعي باليمن الأسفل. ومثل هذه التسميات خلطت المذهبية بالموقع الجغرافي.

السعوديّة واليمنيّون الأحرار وبريطانيا

بعد هزيمة الإمام يحيى في مواجهة السعودية في ثلاثينيات القرن العشرين وفقدانه نصف أراضي اليمن الشمالي التي أصبحت جزءاً من مملكة آل سعود، تشكّلت حركة مقاوِمة لحكم الإمام يحيى، وكانت حركة اليمنيين الأحرار أبرز تيّاراتها. كان فكر الحركة وطنيّاً جامعاً في مراحل صعودها. لكن في مراحل انكسارها ومحنتها تمكّنت السلطة الإمامية من بثِّ الطائفية في صفوفها.

‏عندما هاجمت قوات الإمام محميّة الضالع الخاضعة للاحتلال البريطاني في جنوب اليمن، دخلت بريطانيا على الخطّ الطائفي: ردّت بقصف تجمّعات الإمام العسكرية، وألقت منشورات على بعض المناطق الشافعية تبلغهم أنّها تستهدف المناطق الزيدية لا الشافعية.

‏هذه خطوة مفهومة في إطار سياسة “فرّق تسُد” الاستعمارية التي كان الهدف منها قطع الطريق على الإمام وحرمانه من فرصة تجييش القبائل الشافعية. لكنّ ذلك عمّم الطائفية من أعلى، ونشرها بين الناس العاديّين.

‏بعد فشل ثورة 1948 ضدّ الإمام وتشتُّت قادتها عمّمت مشاعرُ اليأس نغمةً طائفية تقول إنّ الخلاص من حكم الإمامة المتخلّف يقتصر على اليمن الأسفل الشافعي.

بنى الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح جيشاً وجهازاً أمنيّاً من أقاربه المقرّبين في مسقط رأسه في تجربة أقرب إلى تجربة “العلويّة السياسية” في سوريا. وهي تجربة غير مبنيّة على التضامن العصبي والقرابيّ الطائفي

الطائفيّة والثورة الجمهوريّة

عندما أطاح الضبّاط الأحرار حكم الإمامة في اليمن الشمالي سنة 1962، كان معظمهم على صلة بالأفكار القومية العربية والناصرية والتحديث، فأعادوا خطاب الحركة الوطنية اليمنية إلى أفقه الوطني الموحّد.

‏لكنّ تعثّر الثوار، وتدخّل الجيش المصري، وطول الحرب الأهلية بين الملكيين والجمهوريين (1962-1970)، وانقسام الثوار، أعادت الطائفية إلى الواجهة. حاول بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة إعادة صوغ الخطاب الثوري طائفياً، بتصوير ثورة 1962 وكأنّها ثورة القحطانيين ضدّ الهاشميين، لا ثورة اليمنيين ضدّ تخلّف النظام المذهبي الإمامي وإفقاره للناس.

‏على الرغم من أنّ التدخّل المصري بأوامر من جمال عبد الناصر كان هدفه دعم الثورة، اشتكى الرئيس عبد الرحمن الأرياني من إثارة بعض القادة العسكريين المصريين الطائفية بين أبناء اليمنَيْن الأعلى والأسفل (صنعاء وتعز).

‏تضخّم الخطاب الطائفي بين اليمين الجمهوري واليسار الجمهوري بُعَيد معركة آب 1968، بعدما نجحا في دحر القوات الملكية وانتصار الجمهورية. كانت المعركة بين مجموعتين من العسكريين العلمانيين: كبار الضبّاط الوطنيين وصغارهم اليساريين. لكنّ العامل المناطقي – الطائفي ابتعد بالمعركة عن وجهها الحقيقي الذي كان صراعاً بين جناحين أيديولوجيَّين، وصوّرها صراعاً سنّيّاً-شيعياً وبين يمن أعلى ويمن أسفل.

سيطر الجمهوريون على السلطة في اليمن الشمالي بين 1970 و1990، وأُسّست السلطة الطائفية على مستوى الواقع، وحُوّلت الزيدية المذهبية إلى زيدية جغرافيّة بإبطائها التغيير الاجتماعي والاقتصادي وترك الفلاحين في حالة فقر دائم ليظلّوا منجماً دائماً للمقاتلين في صراعات الطامحين إلى السلطة.

صالح والزيديّة السياسيّة

بنى الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح جيشاً وجهازاً أمنيّاً من أقاربه المقرّبين في مسقط رأسه في تجربة أقرب إلى تجربة “العلويّة السياسية” في سوريا. وهي تجربة غير مبنيّة على التضامن العصبي والقرابيّ الطائفي. فصالح لم يكن زيدياً في فكره السياسي، بل كان يرى في الزيدية السياسية عدوّه اللدود وأحد تحدّيات سيطرته على الحكم.

أتت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب عام 1994 لتؤكّد قاعدة تحويل الصراعات السياسية إلى صراعات جغرافية – طائفية. لكنّ الصراع هذه المرّة أصبح صراع الجنوب ضدّ الشمال

تحوّل التنوّع المذهبي في اليمن انقساماً طائفياً (سنّياً – شيعياً) وانقساماً جغرافياً أيضاً (بين يمن أعلى ويمن أسفل). وأضاف الخطاب المعارض بعداً اقتصادياً إلى الانقسام: تقسيم اليمن الشمالي إلى هضبة تهيمن فيها زراعة الكفاف، وسهل تغلب فيه زراعة الوفرة.

الإسلاميّون والعلمانيّون

كلّما أوغلت السلطة في قمع المعارضة أوغل الخطاب المعارض في الطائفية.

من جهته، يرى التيار الإسلامي الإخواني أنّ الصراع السياسي ليس سوى صراع أغلبية سنيّة ضدّ أقلّية شيعية من ناحية، وصراع تقليديين ضدّ حداثيين من ناحية أخرى.

أمّا فصائل المعارضة الأخرى فكان خطابها يتأرجح بين الوطنية والطائفية، حسب موقعها من القمع والسجن.

مع انتشار الإسلام السياسي الإخواني، تحوّلت المناطق الزيدية إلى التسنّن، وتراجعت الزيدية اجتماعياً ومذهبياً بعد إبعادها عن السلطة. لكنّ الخطاب السياسي ظلّ يرى في الطائفية التفسير والتجييش والتقسيم.

كانت الطائفية وما تزال لعبة النخبة السلطوية. واستمرّ الناس العاديّون في تغيير مناطق سكنهم ومذهبهم وعصبيّاتهم حسب مصدر الرزق وموقع الأمان. فلم تكن الجغرافيا اليمنية ثابتة إلا في خطاب النخبة الطائفية السياسية.

أتت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب عام 1994 لتؤكّد قاعدة تحويل الصراعات السياسية إلى صراعات جغرافية – طائفية. لكنّ الصراع هذه المرّة أصبح صراع الجنوب ضدّ الشمال. وأصبح الانتماء الجغرافي انتماءً سياسياً مرّة أخرى: الشمال كلّه (زيدياً وشافعياً) ضدّ الجنوب الشافعي كلّه.

إقرأ أيضاً: الأزمة بالكويت مجدّداً: نهاية “شهر العسل” بين الحكومة والنوّاب

طائفيّة علنيّة

جاء الزحف العسكري الحوثي سنة 2014 ليلعب على كلّ هذه التناقضات: استغلّ خطاب النخبة السياسية الطائفي، وممارسات السلطة الطائفية، ناشراً الطائفية الفجّة العارية. وهي الطائفية العلنية المباشرة والقاتلة بلا حاجة إلى التخفّي خلف خطاب وطني.

منذ ذلك الحين يعيش اليمن كلّه مأساة كرّستها الجماعة الحوثية بالتسلّط والحديد والنار.

* كاتب وصحافي يمني

مواضيع ذات صلة

اغتيال السيّد: المواجهة الكبرى بين طهران وتل أبيب؟

شهدت حقبة المرشد الإيراني علي خامنئي استثماراً كبيراً بمشروعين غير مكتملين: الحزب والبرنامج النووي الإيراني، لكنّ المشروعين اليوم دخلا في مرحلة دقيقة تهدّد استمراريّتهما ومعهما…

الحرب الأولى للحزب من دون العمق السّوريّ

عام 1982، اجتاحت إسرائيل لبنان بعدما وجّهت تطمينات إلى حافظ الأسد بأنّ الوجود السوري في لبنان غير مستهدف في العملية، وفق ما كشفت الوثائق البريطانية…

المقاربة الإيرانيّة المختلفة بين الدولة والثّورة

لكلّ زمن دولة ورجال. عندما يغيّبون تتغيّر الأدوار التي اضطلعوا بها. تلك قاعدة تنطبق في لبنان كما في كلّ العالم. اختبرها اللبنانيون من مختلف طوائفهم….

التدخل البري… المحدود؟!

بدأت إسرائيل تدخلها البري في جنوب لبنان، وذلك بعد تمهيدٍ واسع النطاق أدّاه سلاح الجو، مترافقاً مع مسلسل الاغتيالات الواسعة، لقاعدة الحزب وكوادره والتي لم…