“أدعو إلى تنسيق الاتصال بين مناطق الانتفاضة (…) الهدف هو فرض تطبيق الدستور في عملية إعادة تكوين السلطة، عبر إعلان الحكومة المدنية الانتقالية، مناصفة بين الرجال والنساء. يختار كلّ واحد راشد في الساحات، في يوم معلوم، رجلاً وامرأة لتكوين مجلس المندوبين الأكثر تمثيلاً. فالشعب هو مصدر السلطات وصاحب السيادة (…) والشعب اليوم إنّما هو أبناء الشعب في ساحات الانتفاضة، بعد سقوط ?المؤسّسات الدستورية? في ملكية العصابات…”.
هذا الكلام ليس لثائر من أميركا اللاتينية من عقود ماضية. ولا لفوضويّ جدليّ من قرون غابرة. إنّه من بيان السيّد حسين الحسيني، عرّاب الطائف وشاهد الميثاق ووجدان الدستور، بعد أسبوع واحد على ولادة حراك 17 تشرين. الرجل الذي اختزن أسرار الطائف في محاضره، اختزن قبلذاك أسرار الثورتين، في بيروت وطهران. منذ كان مصطفى شمران والسيّد موسى الصدر ضيفَيْ ذلك المنزل البعلبكيّ على شاطئ خلدة.
لكن كيف انتقل الرجل من عمق الشرعية الدستورية إلى نداء الشرعية الثورية، ولماذا؟ هو سؤال واجب البحث والنقاش والطرح على قيادة الطائفة الشيعية في لبنان، وعلى قيادات باقي الجماعات الطائفية، وعلى كلّ إنسان حريص على بقاء وطن…
***************************************
عراب الطائف والمرشد الدستوري والثائر
ليس تفصيلاً أن ينتقل زعيم بذاكرته ووجدانه وتاريخه السياسي، من أن يكون عرّاب الطائف، إلى أن يتكلّم من موقع “المرشد الدستوري” لثورة شاملة طالب 17 تشرين بها، وطالب هو بها في خضمّ ذاك الزلزال. فهو الآتي من جيل الذين لم يلتحقوا بلبنان، بل اعتنقوه. لم يضمّهم، بل ضمّوه. من سلالة السيّاد الذين وقفوا على قمّتَيْ سلسلتَيْه، من بلاد أفقا حتى بعلبك، فلمسوا بأجسادهم أنّ هذه الأرض وطن مستحقّ ويستحقّ، وأنّه وحده قادر على إعطائهم، على مستوى الإنسان الفرد كما على مستوى الجماعة، ما لا يمكن لأيّ إطار آخر أن يعطيه لهم، ممّا قبل المتوسّط حتى ما بعد قزوين، فتماهوا معه وانعجنوا فيه.
الرجل الذي اختزن أسرار الطائف في محاضره، اختزن قبلذاك أسرار الثورتين، في بيروت وطهران. منذ كان مصطفى شمران والسيّد موسى الصدر ضيفَيْ ذلك المنزل البعلبكيّ على شاطئ خلدة
عرف بالمعيوش أوّل تجسيد لفكرته لهذا اللبنان، مع التجربة الشهابية العابرة لكن الرائعة، فسكنته. آمن بأنّ الوطن هو نتاج كيان وميثاق. الكيان هو الدولة والسيادة. والميثاق هو عيشه المشترك لا غير. إذا نقص أمر من الاثنين اهتزّ الوطن. وإذا سقط أحدهما زال. فبدأ النضال لتكريسهما وثيقة ووثاقاً. وكانت على الدرب محطات كثيرة، أبرزها أربع كتبت تاريخ نصف قرن.
المحطة-الوثيقة الأولى مع الإمام موسى الصدر، في وثيقة 1975، يوم أعلن الإيمان، وسط النار والبارود وسقوط كلّ المفاهيم، بتلك المسلَّمة التاريخية بأنّ لبنان وطن نهائي بهذه الحدود ولكلّ هذا الشعب.
المحظورات الشيعية الأربعة
وفي تلك الوثيقة مسائل أخرى لا تقلّ أهميّة، من الواجب الملحّ استعادتها خصوصاً اليوم، في ظلّ التباسات مغايرة وانطباعات وسلوكيّات مختلفة. هي المحظورات الأربعة التي “لا يمكن للطائفة الإسلامية الشيعية القبول بها”:
“تقسيم لبنان (…) تشويه وجهه الحضاري بتحجيم دورَيْه العربي والدولي، أو بقطعه عن المدّ الحضاري الإنساني، أو بجرّه إلى أيّ محور سياسي عربي أو دولي بحيث يتقوقع ويتقزّم أو يتحيّز ويفقد طابعه المميّز.
تحجير الصيغة اللبنانية بحيث يبقى عامل القلق على المصير عند البعض ذريعة للمحافظة على امتيازاتٍ فئوية، فيما يبقى عامل الغبن عند البعض الآخر باباً للنزاع، وبحيث يبقى العاملان معاً ثغرتين في الكيان تنفذ منهما المؤامرات على سلامة البلد واستقلاله وسيادته ووحدة أرضه وشعبه.
أيّة تسوية بين الفرقاء على حساب الوطن، ولو مؤقّتة (…) هذه النقاط الأربع، يهمّ الطائفة الإسلامية الشيعية أن تشدّد على رفضها جملةً وتفصيلاً لأنّها شبه قنابل موقوتة، لا بدّ من أن تؤدّي إلى الانفجار عند أوّل فرصة تسنح…”.
غُيّب الإمام، واستمرّت الحرب واتّسعت. جاء احتلال العدوّ وبلغ بيروت. تزعزع كلّ شيء. فكانت “الثوابت الإسلامية” ضرورة. ومن دار الفتوى بالذات في أيلول 1983، مع إجماع الإيمان على نهائية الكيان. وكان السيّد حاضراً مشاركاً فاعلاً حافظاً للأمانة.
بعد عبور صحراء الانقلاب الأوّل على “طائفه” وبروز ملامح انبعاثٍ ممكنٍ لجوهر الميثاق والوفاق والسيادة، جاءت طعنة اغتيال رفيق الحريري. زلزال أكبر ضرب بنية الوفاق في طبقة تأسيسية له
استمرّت الحرب أيضاً. وتذرّرت. انكفأت عن خطوط تماس النصفين، لتصير داخل كلّ نصف منقسم على ذاته وفي كلّ بيت وعائلة. فعاد السيّد إلى الحفر في الجوهر. وكانت وثيقة مسلّمات الوفاق في آذار 1985، وثاني براءة اختراع وطنية له ولخطّه الفكري. وقد جاء فيها أن “لا شرعية لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”.
حتى كانت لحظة التتويج بالنسبة إليه. يوم وجد الشريك الميثاقي في اللغة والممارسة والرؤية. إنّها بكركي. بدأت المسوّدات رحلاتها بين الطرفين. ملاحظات ونقاشات وتوافقات. حتى اكتمل جوهر اتفاق الطائف.
يومئذٍ ربّما اعتقد السيّد أنّه أتمّ واجبه تجاه وطنه وناسه وإمامه والتاريخ. وحسب أنّه أنجز المهمّة الكبرى، قبل أن تتوالى الطعنات والانقلابات كما كان يسمّيها ويعدّدها، بدءاً من اغتيال رينيه معوض، رئيس دولة الطائف بامتياز، خصوصاً في ظلّ قناعته ومعلوماته أنّ تلك الجريمة يومذاك كانت تخطّط ليكون هو وسليم الحص مع الرئيس في السيّارة نفسها، حتى يكون الاغتيال للطائف برمّته.
بعد الاغتيال جاء الانكفاء المسيحي عن الاتفاق، بين 1990 وانتخابات 1992، بكلّ ما ومن سبّبه وكلّ ما نتج عنه.
الانقلاب الأول على “طائفه”
وبعد عبور صحراء الانقلاب الأوّل على “طائفه” وبروز ملامح انبعاثٍ ممكنٍ لجوهر الميثاق والوفاق والسيادة، جاءت طعنة اغتيال رفيق الحريري. زلزال أكبر ضرب بنية الوفاق في طبقة تأسيسية له. طبقة تبدأ في بيروت وتتردّد تداعياتها من دمشق إلى بغداد إلى أبعد، أو هي جاءت انعكاساً لما كان قد بدأ يُعدّ بدءاً من تلك العواصم قبل أعوام قليلة حتى بيروت.
وصولاً إلى آخر طعنتين كما رآهما: التحالف الرباعي الذي رسم صورة تفرّد البعض واستفراده، وإقصاء آخر واستتباعه، انتهاءً باتفاق الدوحة، بعد مقدّماته الدموية، ونتائجه التعطيليّة…
يومذاك وقف السيّد حيث بدأ، في ساحة النجمة، معلناً استقالته من التركيبة، لا يأسه من الفكرة، انفكاكه عن طبقة، لا انكفاءه عن عقيدة.
يومئذٍ حذّر سامعيه بالقول المباشر: “نصيحتي لكم، هو أنّكم يمكن أن تؤبّدوا لمرّة أو لمرّتين هذه الطبقة، ولكنّ أسفي وخوفي الكبير هو أنّكم لا تستطيعون الإبقاء على الوطن. الوطن في خطر أكبر ممّا تعتقدون…”.
كان رؤيويّاً. ومنذ ذلك التاريخ بدا وكأنّه لم يعد مؤمناً بآليّات عمل النظام، للتغيير والإصلاح. صار متيقّناً أنّ الإنقاذ يحتاج إلى قوّة أخرى. ولم يتأخّر عن إعلان ذلك صراحة. في كلمة له في ذكرى فؤاد شهاب في نيسان 2012، اختار أفضل نصّ للتدليل على قناعته تلك من خطاب عزوف فخامة الأمير اللواء سنة 1970. وفيه تلك النبوءة: “إنّ المؤسّسات السياسية اللبنانية والأصول التقليدية المتّبعة في العمل السياسي، لم تعد، في اعتقادي، تشكّل أداة صالحة للنهوض بلبنان (..) مؤسّساتنا تجاوزتها الأنظمة الحديثة في كثير من النواحي سعياً وراء فعّاليّة الحكم. وقوانيننا الانتخابية التي فرضتها أحداث عابرة ومؤقّتة، ونظامنا الاقتصادي الذي يسهّل سوء تطبيقه قيام الاحتكارات، كلّ ذلك لا يُفسح في المجال للقيام بعمل جدّي على الصعيد الوطني”.
قبل أن يتابع السيّد بلغته الخاصة، وبصراحة ثورية كاملة، بالدعوة المباشرة إلى “انتخاب جمعية تأسيسية تمثّل جميع اللبنانيين، بميثاق حضاري ودستوري. دولة مدنية. جمعية تأسيسية تمثّل جميع اللبنانيين. لا الاغنياء وحسب، الأغنياء بمال الدول الأجنبية وبالمال العامّ المنهوب. جمعية تأسيسية تكونون فيها شعباً، لا أقولُ واحداً. فليس لكم إلا ذلك، أو تكونوا أيتام الدول”.
وحتى لا يلتبس الكلام، وفاءً لضرورة بناء الدولة، كما قال، ختم بنداء “الدعوة إلى ثورة يكون فيها اللبنانيون من كرام الناس…”.
إقرأ أيضاً: حسين الحسيني “السيّد” الذي رفض الدمّ
بعد سبعةٍ عجاف، أطلّ عام النبت الذي تحدّث عنه السيّد. جاء تشرين 2019، فكان حاضراً بكلمته في ساحات النضال، كأنّه شابّ من شبابهم، ثائر في مقدَّم ثورتهم.
تعثّرت هي قبل شهور؟؟ رحل هو قبل يومين؟ من قال إنّ الثورات فعل لحظة أو يوم أو حدث. هي مسار تاريخ، بوصلته الحرّية. لا تموت في شعب. ولا يموت في تاريخه أمثال حسين الحسيني.