لا يعترف “حزب التحرير الإسلامي” في السودان بالجغرافيا السياسية للبلد، وحسب تصريح ناطقه الرسمي: “نحن لا ننتمي إلى السودان، لكنّنا ننتمي إلى الإسلام”.
إنّه نفس طرح المرشد الأسبق لـ”جماعة الإخوان” في مصر، وعدد من قيادات الجماعة في مواقع عديدة. لذلك كان طبيعياً أن يلتقي الإخوان وحزب التحرير للتنسيق المشترك عقب إسقاط حكم الجماعة بقيادة عمر البشير.
في شهر آب من عام 2020 عقد الإخوان وحزب التحرير اجتماعاً “ناجحاً”، وقرّروا على أثره عقد اجتماعات أخرى، وتشكيل لجان مشتركة من الجانبَيْن، وكان تصريح ممثّل الإخوان في الاجتماع واضحاً جدّاً: “القضايا التي بحثناها كانت على أساس العقيدة لا على أساس الوطنية”.
ببساطة ليس المشروع هو الانتقال بالسودان وغيره من الدولة إلى الخلافة، بل الانتقال من الدولة إلى اللادولة.
يرى حزب التحرير أنّ كلّ الجيوش في العالم الإسلامي من جاكارتا إلى داكار، هي جيوش طواغيت، وأنّ كلّ النظم الحاكمة في الدول الإسلامية هي نظم طواغيت
الاتّفاق الإطاريّ في السودان
تسرّب حزب التحرير من مصر إلى السودان في ستّينيّات القرن الماضي، وانتعش مع توجّه جعفر النميري إلى ما سمّاه الحكم الإسلامي، لكنّ الحزب اصطدم بسلطة الإخوان الأحادية واستبعادهم له بعد انقلابهم عام 1989. ولمّا أسقط الشعب الإخوان ورحل البشير، عاد الحزب إلى الظهور.
قام حزب التحرير بتكفير الرئيس عمر البشير، وكان شعاره بعد رحيله: “بالخلافة نقتلع نفوذ الكافر”. وفي تموز من سنة 2019 طالب الحزب الجيش والثوّار بتسليمهم السلطة من أجل إقامة الخلافة الراشدة.
هاجم حزب التحرير “الاتّفاق الإطاريّ” الذي يمثِّل وفق رأي الكثيرين “الأمل الأخير” لإنقاذ السودان من الانهيار. وعقد الحزب ندوة في أمّ درمان بعنوان “الاتّفاق الإطاريّ وتحدّي الخلافة”، وكان من بين كلمات الندوة كلمة بعنوان: “الاتفاق الإطاري سرابٌ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماء”، وكلمة أخرى بعنوان: “إنّ الهدف من الاتفاق الإطاري إبعاد الإسلام وتطبيق النظام الرأسمالي الكافر”، وكلمة ثالثة بعنوان: “إقامة الخلافة فرض على الشعب السوداني باعتبارها، هي فقط، دولة المسلمين”.
عشرون دولة
في عام 1974 قامت جماعة دينية متطرّفة يقودها شخص يدعى صالح سريّة بمحاولة إسقاط نظام الرئيس أنور السادات في مصر، وذلك عبْر أحداث الكليّة الفنّية العسكرية.
يعتبر عدد كبير من الباحثين أنّ صالح سريّة كان ينتمي إلى جماعة الإخوان، لكنّ البعض ذهب إلى أنّه كان ينتمي إلى جماعة متطرّفة أخرى تُسمّى “حزب التحرير الإسلامي”. وهي جماعة أسّسها شخص يدعى تقيّ الدين النبهاني عام 1953، أي قبل أكثر من 20 عاماً من محاولة الانقلاب الجهاديّة تلك.
كان صالح سريّة وتقيّ الدين النبهاني يرتبطان بصلات قرابة، وفيما بعد أصبح “حزب التحرير الإسلامي” حزباً أمميّاً يعمل في أكثر من 20 دولة عربية وإسلامية، واستمرّت الصلات بينه وبين جماعة الإخوان المسلمين.
الجميع طواغيت
امتدح زعيم تنظيم القاعدة السابق أيمن الظواهري زعيم حزب التحرير في مصر صالح سريّة، وعبّر عن إعجابه به في أكثر من موضع.
من المثير أنّ راية حزب التحرير هي ذاتها راية تنظيم القاعدة، إذ تجري كتابة عبارة التوحيد بالخطّ الأبيض على راية سوداء، وأنّ كلّاً منهما يدعو إلى تأسيس خلافة إسلامية عالمية، قبل أن يتنافسا على تلك السلطة الوهمية ويشتعل الصراع بينهما.
يرى حزب التحرير أنّ كلّ الجيوش في العالم الإسلامي من جاكارتا إلى داكار، هي جيوش طواغيت، وأنّ كلّ النظم الحاكمة في الدول الإسلامية هي نظم طواغيت. وحتى تلك النظم التي أعلنت تبنّيها أيديولوجية الإسلام السياسي هي نظم كافرة، لأنّها لم تعلن ولاءها للخلافة التي يسعى إلى تأسيسها حزب التحرير الإسلامي.
في بيان للحزب بشأن أزمة كشمير اتّهم الجيش الباكستاني بخيانة الإسلام، ووعد بأن يقود رئيس الحزب، وهو “الخليفة الراشد المقبل”، باكستان بعد إسقاط النظام وتحرير كشمير، وبإخضاع الهند بأكملها لدولة الخلافة.
آلة الزمن
يؤكّد حزب التحرير أنّ العالم يجب أن تسوده “خلافة عالمية”، وأنّ كلّ دولة داخل الخلافة هي ولاية وحسب، فهناك ولاية مصر، وولاية تركيا، وولاية إندونيسيا، وولاية ماليزيا، وولاية باكستان… وهكذا.
يحكم الولاية شخص يسمّى “المعتمد”. والمعتمد هو رجل الخليفة في الولاية، يعيّنه الخليفة ويعزله متى أراد ذلك. ويعاون المعتمد في الولاية “مجلس الولاية”، ويقوم المعتمد والمجلس بتأسيس الدواوين، من “ديوان الحسبة” إلى “ديوان المظالم”.
في موقع حزب التحرير الإسلامي على شبكة الإنترنت، يمكن للقارئ أن يتصفّح “ديوان الخلافة” ـ “قسم الدولة الإسلامية”، وأن يقرأ نداءات “الخلافة تناديكم”، “أقيموها أيّها المسلمون”، “أغلب الإسلام معطّل بسبب غياب الخلافة”، “أيّ نظام غير الخلافة هو نظام طاغوتيّ”.
يشير حزب التحرير إلى أنّ “دار الإسلام” هي “دار الخلافة”، وأنّ المسلمين لا يعيشون في “دار الإسلام” الآن، لعدم وجود الخلافة، وبالتالي يجب دفعهم إلى الدخول في حظيرة الخلافة، والعودة إلى دار الإسلام التي تركوها!
إقرأ أيضاً: الجوع والذهب.. السودان عند مفترق الطرق؟
في حديث إذاعي بثّه موقع الحزب يقول أحد قادته: هل نريد عمر بن الخطّاب أم الخلافة؟ ويجيب: نريد الخلافة، فنظام الخلافة هو الذي أنتج عمر، ولو كان عمر في نظام ديمقراطي لفشل في حكمه.
في 28 تشرين الأول من عام 2022 قام حزب التحرير بإطلاق “هاشتاغ الخلافة”. وقال إنّ أعضاء الحزب في ولايات المسلمين (باكستان وماليزيا والسودان وغيرها) يرون أنّ الوقت قد حان لأجل ذلك. وجاء في الهاشتاغ: “لم يقُم حزب التحرير باستعدادات كاملة للإسلام فحسب، بل إنّه يتمتّع بحضور عالمي لتوحيد البلاد الإسلامية الآن في دولة واحدة.. واسعة وقويّة”.
إنّ ما يطرحه حزب التحرير الإسلامي، والقوى الخارجية التي تدعمه بشأن “الخلافة العالمية”، إنّما يهدف في الواقع إلى هدم الدولة الوطنية، وتدمير الجيوش الوطنية، ثمّ الفوضى، وفي كلمة واحدة: اللادولة.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@