للمرّة الألف يقول زعيم ميليشيا حزب الله حسن نصرالله إنّ إيران لا تتدخّل في الانتخابات الرئاسية اللبنانية. وللمرّة الألف هو على حقّ.
في خطابه الأخير في ذكرى مقتل قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، الذي صدف أن يكون برفقته القيادي التابع له العراقي أبو مهدي المهندس، قال نصرالله: “من ينتظر المفاوضات بين أميركا وإيران حول النووي ممكن ينتظر عشرات السنين فنبقى بلا رئيس جمهورية، فالإيرانيون لا يناقشون أيّ شيء آخر سوى النووي”. وأضاف: “من ينتظر توافقاً سعودياً إيرانياً، سينتظر كثيراً لأنّ إيران لا تتدخّل بالشأن الداخلي اللبناني، فكلّ الذين كانوا يراجعون إيران في أيّ شأن من هذه الشؤون كان الجواب هذا شأن لبناني”، وتابع قوله: “حتى لو جلس السعودي والإيراني فإنّ أولوية السعودية هي اليمن وليس لبنان”.
حسناً.. لماذا تناقش إيران ملف اليمن مع السعودية، ولا تناقش ملف لبنان، بحجّة أنّها لا تتدخّل؟ ما يبدو تناقضاً في الظاهر هو التعبير الأدقّ عن طبيعة العلاقة التي تربط حزب الله بإيران، والتي تختلف كثيراً عن علاقة الميليشيات الأخرى التابعة لنظام ولاية الفقيه في اليمن والعراق وأماكن أخرى.
لم يحصل أن واجهت المصالح الإيرانية تناقضات خطيرة مع مصالح أتباعها في لبنان كما تواجه بين الحين والآخر مع أتباعها في العراق
كان حريّاً بنصرالله أن يتوقّف عند نفي التدخّل الإيراني المباشر في لبنان، بمعنى الإدارة التفصيلية لملفّات هذا البلد، ومنها ملفّ رئاسة الجمهورية، وأن لا يتوسّع، باتّجاه إعطاء مثال اليمن، فاضحاً من حيث لا يريد أنّ إيران فعلاً صاحبة نفوذ في اليمن وصاحبة تدخّل ومونة وقدرة على اجتراح التسويات نيابة عن ميليشيا الحوثي، إن حقّقت التسويات مصالحها. هي لا تكتفي بالتفاوض على النووي إذاً. وهي تفاوض عن اليمنيين أو بمعيّتهم بالحدّ الأدنى. فلماذا يدّعي نصرالله أنّها لا تتدخّل في لبنان؟
الحزب ومصالح إيران أوّلاَ
في لبنان، لا كما في غيره، لا تحتاج إيران إلى التدخّل، مطمئنّةً إلى تطابق مصلحة ميليشيا حزب الله تماماً مع مصلحة وأجندة طهران. لن تعثر طهران على موفد إيراني إلى لبنان يعرف مصالحها أكثر من نصرالله نفسه، وهو ما يجعلها تستغني عن أيّ رعاية إيرانية مباشرة، هذا لو حسبنا أنّ نصرالله لبنانيّ بحكم الولادة والجنسيّة، لا إيرانيّ بحكم الإيمان والعقيدة والدور والأولويّات.
وعليه ليس من باب المبالغات أو المجاملات القول إنّ ميليشيا حزب الله في لبنان هي درّة تاج فكرة تصدير الثورة الخمينيّة، وبفوارق هائلة في القيمة والمكانة عن بقيّة المكوّنات في سلّة صادرات الخمينيّة. حتى إنّ نصرالله وميليشياته من قلّة نادرة خارج إيران يوكَل إليها أدوار الرعاية لمصالح نظام الملالي خارج إيران ولبنان.
ليس سرّاً مثلاً أنّه بسبب من هذه المسؤوليّات الموكَلة إلى حزب الله كان للحزب ممثّل في العراق، هو الحاج محمد كوثراني، تتجاوز مهمّته رعاية العلاقة بين الحزب وبين نظرائه العراقيين، إلى رعاية وترتيب العلاقات بين المكوّنات العراقية نفسها والإشراف على اتّساق السياسة العراقية مع مصالح إيران العليا. ومن غير الواضح إن كان كوثراني، الذي تضاعف دوره بعد اغتيال سليماني، قد استمرّ في هذا الدور، لا سيّما بعدما اختفى عن الأنظار بعد إعلان وزارة الخارجية الأميركية في شهر نيسان 2020 عن مكافأة بقيمة 10 ملايين دولار مقابل الإدلاء بمعلومات عن أنشطته وشبكاته وشركائه. علماً أنّ وزارة الخزانة الأميركية كانت قد أدرجته على القائمة الخاصة بالإرهابيين العالميين في عام 2013.
نصرالله: من ينتظر المفاوضات بين أميركا وإيران حول النووي ممكن ينتظر عشرات السنين فنبقى بلا رئيس جمهورية، فالإيرانيون لا يناقشون أيّ شيء آخر سوى النووي
لا تدخّل إيراني.. فعلاً
في المقابل، لم يعرف اللبنانيون في لبنان أدواراً علنيّة لسليماني أو لوريثه إسماعيل قاآني، كمثل الأدوار المعلنة في العراق، إن كان بخصوص ترتيبات ما يسمّى البيت الشيعي أو الإدارة التفصيلية لملفّ تشكيل الحكومة أو مجمل إعادة تكوين السلطة في العراق بعد كلّ انتخابات برلمانية. وحتى حين حضر قاسم سليماني إلى لبنان لإدارة حرب تموز 2006، في ظلّ انهيار نصرالله المعنوي أمام حجم ردّ الفعل الإسرائيلي، بحسب كتاب “قائد الظلّ” لآراش عزيزي، فإنّه فعل ذلك بأعلى درجات السرّيّة، ولم يُعلن دوره إلا بعد سنوات لاحقة إثر مقتله.
ولم يحصل أن واجهت المصالح الإيرانية تناقضات خطيرة مع مصالح أتباعها في لبنان كما تواجه بين الحين والآخر مع أتباعها في العراق، كمثل الحاصل اليوم في ظلّ موقف معظم القوى السياسية والميليشيات الشيعية الرافضة أن تُقْدِم حكومة محمد شياع السوداني على إصدار موقف رسمي يفيد بأنّ سليماني يوم اغتياله في العراق كان ضيفاً رسمياً على الدولة العراقية، بحسب ما تطالب طهران. فما تسعى إليه طهران من خلال ضغوطاتها المكثّفة على بغداد هو صياغة ملفّ قضائي يستند إلى خرق سيادة العراق وفق القانون الدولي، باغتيال شخصية لديها سمة الضيف الرسمي، وهو ما سيؤدّي إلى إرباك خطير في العلاقات بين بغداد وواشنطن. وحتى الآن اكتفى رئيس الحكومة العراقية خلال حفل رسمي لمناسبة الذكرى السنوية الثالثة لمقتل سليماني ورفاقه، بوصف سليماني بـ”ضيف العراق الجنرال قاسم سليماني” من دون تقديم وثائق رسمية تثبت أنّ سليماني كان ضيفاً رسمياً للدولة العراقية.
لا شيء من ذلك في لبنان. لا أدوار إيرانية علنيّة. ولا تناقضات خطيرة بين الأجندات. ولا قلق إيرانيّاً من كفاءة الإدارة السياسية. ولا هواجس من حجم السيطرة على الطائفة الشيعية. في لبنان تُغمض إيران عينيها وتنام على حرير حسن نصرالله وميليشياه.
إقرأ أيضاً: التدخّلات الإيرانيّة التي ينفيها الحزب
هذا هو المعنى العميق والحقيقي لقول نصرالله الدائم إنّ إيران لا تتدخّل في الشأن اللبناني. فمن لديه مثل نصرالله وحزب الله تصبح حتى سفارته في لبنان ترفاً غير ضروري إلا من الناحية اللوجستية التي تؤمّنها مكتسبات صفة الدولة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@