مع مصادقة الكنيست الإسرائيلي، على منح الثقة للحكومة الإسرائيلية الجديدة برئاسة بنيامين نتنياهو، بما يعنيه من صعود اليمين الأكثر تطرّفاً إلى الحكم في إسرائيل… دخلت الدولة والسلطة والمعارضة في الدوّامة نفسها من صراعٍ شديد الصلة بالهويّة الدينية التي تُواجه “الطبيعة العلمانية” المفترض أنّ الدولة العبرية تأُسّست عليها وعلى أنقاض فلسطين أرضاً وشعباً.
احتدم الصراع وبلغ حدّاً ما عاد ممكناً التراجع عنه من دون أن يُخلّف ندوباً سياسية في بنية الدولة وعلاقتها مع الدين، وتكون له نتائج على الإسرائيليين، وبالتالي على الفلسطينيين الموجودين هناك. صارت العناوين الفكرية والسياسية موضوع الصراع هي الفضاء الحاكم لِما ستؤول إليه الأمور بعد إعلان المعارضة عزمها إسقاط حكومة بنيامين نتانياهو لأنّها “تُغيّر الطبيعة الديمقراطية” للدولة التي قد “تتفكّك من الداخل وصارت ظلاميّة كإيران”.
التصدّع الهويّاتيّ وفاشيّة الليكود
أخذ التصدّع الهويّاتي في إسرائيل يظهر في جملة تشريعات تعكس رغبات اليمين المتطرّف بتدريس التوراة والفصل بين الجنسين، وغضّ النظر عن التحريض على العنصرية والتمييز ضدّ الأقليّات الذي تمارسه الأحزاب الدينية، مروراً بالسماح للأطبّاء الإسرائيليين بالامتناع عن تقديم العلاج لمريض لأسباب دينية، ومنح رواتب شهرية لطلاب المدارس الدينية تفوق ما يتقاضاه الجنود المقاتلون، وهو ما يعني اغتراب “العلمانية المؤسِّسَة” التي صاغت هويّة الدولة الإسرائيلية وتعذُّر تعايشها مع الهويّة الجديدة.
مع مصادقة الهيئة العامّة للكنيست، على تعديلٍ لقانون أساسي يقضي بتعيين رئيس حزب “شاس” أرييه درعي وزيراً على الرغم من إدانته بمخالفات فساد والحكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ، تكون إسرائيل قد أصبحت رسمياً دولة “اللاقانون”
بحسب توصيف رئيس الوزراء المنتهية ولايته يائير لابيد، فقد دخلت إسرائيل مع نتانياهو بنسخته الجديدة نفق “دولة الشريعة الظلامية”، بعدما رفض في وقت سابق دعوات الأحزاب الدينية له بالفصل بين الجنسين، قائلاً: “إسرائيل ليست دولة شريعة كإيران”.
في واقع كهذا يصبح إثبات “فاشيّة” حزب الليكود أمراً يسيراً بعدما صارت هذه القوّة السياسية عارية، وقوامها: حكم الرجل الواحد، رأي واحد مطلق، تقديس القوميّة وأسطرتها، شنّ حرب ضدّ السلطة القضائية، مع طموح جامح إلى السيطرة على الإعلام.
مع مصادقة الهيئة العامّة للكنيست، بالقراءتين الثانية والثالثة، على تعديلٍ لقانون أساسي يقضي بتعيين رئيس حزب “شاس” أرييه درعي وزيراً على الرغم من إدانته بمخالفات فساد والحكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ، تكون إسرائيل قد أصبحت رسمياً دولة “اللاقانون”.
“اليهوديّة” والخلاف مع الجيش
أثار مشروع قانون يسمح لمقدّمي الخدمات والسلع بالامتناع عن تقديمها على أساس ديني، كثيراً من الجدل في تل أبيب. يرتبط القانون الجديد، الذي كُشف عنه النقاب أخيراً، بالاتفاقات الائتلافية الموقّعة بين حزب “الليكود” و”الصهيونية الدينية”. اتفاقات تقضي بإدخال تعديلات على قانون متّبع في إسرائيل يكافح التمييز في تقديم الخدمات للمواطنين الإسرائيليين. والقانون الجديد سيتيح للشركات أو المؤسّسات أو الأفراد عدم تقديم خدماتهم، على أساس المعتقد الديني.
من جهة أخرى، في سابقة هي الأولى من نوعها، تمثِّل إنجازاً غير مسبوق للتيار الديني المتشدّد، استجاب نتانياهو لطلب حركة “الصهيونية الدينية” بأن يتولّى الحاخام الشرقي الأكبر لإسرائيل تعيين الحاخام العسكري للجيش، مع أنّ وجهات النظر بين الحاخاميّة والجيش تتباين في مسائل متعدّدة أبرزها: اعتناق الدين اليهودي، ودفن الجنود غير اليهود، والخدمة العسكرية للنساء، والقيام بنشاطات عسكرية يوم السبت المقدّس لدى اليهود.
إلى ذلك أجرى رئيس أركان الجيش أفيف كوخافي، في خطوة تُعتبر استثنائية، اتصالاً هاتفياً برئيس الحكومة المكلّف بنيامين نتانياهو، أعرب فيه عن “قلقه من التداعيات السلبية على الجيش والأمن الإسرائيلي جرّاء تعزيز نتانياهو صلاحيّات زعيم “الصهيونية الدينية”، بتسلئيل سموتريتش، في كلّ ما يتعلّق بالإدارة المدنية (الذراع التنفيذية لدولة الاحتلال في الضفة الغربية)، وتغيير تنظيمات وسياسات الاستيطان، وشرعنة البؤر الاستيطانية ومحاصرة البناء الفلسطيني في المنطقة “ج” من الضفة الغربية المحتلّة”.
ويُعتبر الاتصال الهاتفي، الذي بادر إليه كوخافي، نادراً لأنّه جرى العرف في إسرائيل أن لا يتواصل رئيس أركان الجيش الإسرائيلي والمسؤولون في المؤسسة العسكرية مع السياسيّين، أو مع رئيس حكومة مكلّف قبل أن تنال حكومته الثقة، للتعبير عن تحفّظاتهم أو مخاوفهم من الاتفاقات الائتلافية أو بنود فيها.
من ناحيته، ذكر موقع “يديعوت أحرونوت” أنّ كوخافي طالب نتانياهو بإتاحة الفرصة أمام قادة الجيش لطرح موقفهم المهني قبل إقرار أيّ تشريع قانوني أو قرار سياسي بهذا الخصوص، وبمنح الدعم الكامل للجيش.
وأشارت القناة 13 الإسرائيلية إلى أنّ المكالمة بين كوخافي ونتانياهو كانت “متوتّرة”، وسُمع فيها “صراخ” كوخافي الذي حذّر من أنّ “هذه التغييرات المتّفق عليها تقوّض التراتبية القيادية (سلسلة القيادة) في الجيش، وتقوّض سلطة قائد القيادة الوسطى ومسؤولية الجيش الإسرائيلي في مناطق يهودا والسامرة (الضفة المحتلّة)”.
دفع الاتفاق الائتلافي والسياق السياسي، الذي تمضي فيه أوضاع الدولة العبرية، بآلاف الإسرائيليين إلى التظاهر بشوارع مدينتَيْ تل أبيب ويافا، احتجاجاً على تشكيلة حكومة نتانياهو
نظام الأبارتهايد الإسرائيليّ
خلال الفترة الماضية، وجّه قادة أجهزة الأمن الإسرائيلية انتقادات شديدة اللهجة إلى الاتفاق الائتلافي الذي توصّل إليه نتانياهو مع سموتريتش، ويمنح الأخير صلاحيّة تحديد سياسات الاحتلال في الضفة الغربية. وحذّروا من أنّها ستضرّ بمكانة إسرائيل الدولية، بحيث تفضح نظام الأبارتهايد الإسرائيلي: “إذ سيرى الرأي العام الدولي أنّ إسرائيل تحكم بنظامين قانونيَّين مختلفين (تمارس سياسة الفصل العنصري)، أحدهما لليهود والآخر للفلسطينيين”.
وكان سموتريتش تمكّن من الحصول على تعهّد من نتانياهو بدفع ضمّ أراضٍ فلسطينية في الضفة الغربية قُدُماً وفرض السيادة الإسرائيلية عليها، وجاء في النصّ أنّ “لشعب إسرائيل حقّاً طبيعياً في أرض إسرائيل، وفي ضوء الإيمان بالحقّ المذكور سيقود رئيس الحكومة جهود صياغة سياسة بسط السيادة الإسرائيلية في يهودا والسامرة والدفع بها”.
من جهتها، تعهّدت المعارضة بإسقاط حكومة نتانياهو الجديدة، في بيان مشترك أعقب اجتماع يائير لابيد وأفيغدور ليبرمان وميراف ميخائيلي ومنصور عباس. ووصفت الحكومة التي يجري تشكيلها برئاسة بنيامين نتانياهو بأنّها “حكومة ظلام ستعمل على تفكيك إسرائيل” من الداخل. فيما قدّم 1,197 من الضباط الإسرائيليين الذين خدموا سابقاً في سلاح الجوّ، بينهم دان حالوتس وإيتان بن إلياهو وأفيهو بن نون وعاموس يادلين وران كورين ونمرود شيفر، رسالة عاجلة إلى رئيسة المحكمة العليا، والمستشارة القانونية للحكومة، والمستشارة القانونية للكنيست، طالبوا فيها بوقف “تدمير الديمقراطية” التي أصبحت في خطر.
إقرأ أيضاً: أوروبا “تواجه” نتنياهو.. لمنع “تهويد” الضفّة الغربية
دفع الاتفاق الائتلافي والسياق السياسي، الذي تمضي فيه أوضاع الدولة العبرية، بآلاف الإسرائيليين إلى التظاهر بشوارع مدينتَيْ تل أبيب ويافا، احتجاجاً على تشكيلة حكومة نتانياهو، بدعوى أنّها تضمّ مجرمين مدانين بتهم جنائية، ومتطرّفين دينياً.
في كلّ الأحوال، لا يخفي مأزق إسرائيل مأزق الفلسطينيين الأكثر تأثّراً بعاصفة التغيير الشديدة المحمّلة بالغبار السياسي المقبل من تل أبيب الذي يسعى إلى تأبيد احتلال الضفة الغربية.
*كاتبة فلسطينية