في العامين الأخيرين من عهد الرئيس ميشال عون، بدأت تتبدّل الأسباب الموجبة لـ”تفاهم مار مخايل” بين حزب الله والتيار الوطني الحر. تزامن هذا مع تبدّل الظروف المحلية والإقليمية والدولية على حدّ سواء.
في 6 شباط من العام الماضي، كتبنا في “أساس” أنّ “كلّ شيء يوحي بأنّ ورقة التفاهم سقطت وتنتظر دفنها بعد خروج الرئيس عون من قصر بعبدا ودخول لبنان حقبة جديدة”. وها نحن قد وصلنا إلى هذه الحقبة الجديدة، وربّما يقترب موعد الدفن.
قبل شهر من إطفاء الشمعة الـ17 من عمر التفاهم، يبدو أنّه لن يبلغ “سنّ الرشد”. فالرسائل المتبادلة علناً بين الأمين العام للحزب ورئيس التيار الوطني الحر خير دليل على ذلك.
تبادل الرسائل المشفّرة
عنوانان أساسيّان هما سبب الافتراق: سليمان فرنجية ونجيب ميقاتي.
أصبح معلوماً أنّ باسيل يسعى إلى إسقاط الاسمين، وأنّ الحزب ما يزال يتمسّك بسليمان فرنجية، وهو ما بدا واضحاً في كلام نصرالله خلال خطابه الأخير
فجّر الاختلاف في مقاربة المسألتين الرئاسية والحكومية العلاقة بين السيد حسن نصر الله وجبران باسيل. عندئذٍ بات الخلاف علنيّاً، بعدما كان “داخلياً” وغالباً ما كان يتولّى ترطيبه وتطويقه “صديق جبران”، وفيق صفا مسؤول التنسيق والارتباط في حزب الله، باعتباره زائراً دائماً في البيّاضة أو البترون أو اللقلوق. لكن هذه المرّة انقطع التواصل، حتّى إنّه لم تُعقَد أيّ لقاءات بين الصديقين.
اعتقد البعض أنّ السجال العلنيّ انتهى عند تشكُّك باسيل في مصداقية الحزب وبيان الردّ. إلا أنّ السبحة كرّت وتحوّل السجال إلى “سياسة إعادة تموضع” لكلّ من الفريقين، فذهب باسيل في مسعاه الداخلي ولقاءاته، التي بعضها خرج إلى الضوء والبعض الآخر ما يزال مستوراً، من أجل تحريك الجمود الرئاسي، ولو أنّه من دون نتيجة حتى الساعة، فيما ذهب الحزب ليحاور قوى مسيحية، من “ليالي الأنس مع الخنسا” إلى بكركي، وأيضاً من دون نتيجة حتى الساعة.
لم تكن زيارة رئيس المجلس السياسي في الحزب السيد إبراهيم أمين السيد لبكركي زيارة معايدة فقط، بل قرأ المعنيّون في كلام السيّد من منبر الصرح رسالةً إلى باسيل يقول له فيها: “أمامك خياران أحلاهمها مرّ: سليمان فرنجية أو جوزف عون”.
أصبح معلوماً أنّ باسيل يسعى إلى إسقاط الاسمين، وأنّ الحزب ما يزال يتمسّك بسليمان فرنجية، وهو ما بدا واضحاً في كلام نصرالله خلال خطابه الأخير.
تلقّفت أوساط التيار رسالة الحزب التي وجّهها نصرالله في خطابه الأخير، بحضور النائب المقرّب من باسيل غسان عطالله، والتي “ليست المناورة الأولى التي يقوم فيها بحشر باسيل بين فرنجية وعون”. وقد أعلن فيها أنّه يرفض الابتزاز بالغطاء المسيحي، واضعاً نفسه “في حلٍّ من التفاهم إذا أراد التيار ذلك”. وفي كلام نصرالله أيضاً غمز من قناة جولات باسيل من وإلى قطر عندما دعا إلى عدم المراهنة على الخارج وعلى أيّ تغييرات فيه.
لم تعد حسابات الفريقين نفسها كما كانت عليه في عام 2006. صحيح أنّ ظروف الفريقين متشابهة لجهة محاصرتهما في الداخل والخارج
باسيل “العنيد”.. والأسباب الموجبة
لم يكن ردّ باسيل أقلّ وقعاً. من يعرف الرجل يعرف أنّه عنيد، لا يستسلم، وغالباً ما اعتاد تحقيق مبتغاه من خلال التصميم على موقفه مهما كان الثمن. اختار باسيل هذه المرّة الردّ عبر الإعلام بتسريب كلام عالي السقف قال فيه إنّ “كلام السيد لطيف وإيجابي تجاه التيار، لكنّه غير كاف”. بالنسبة إلى باسيل الخطأ كبير ولا يعالَج إلا بتصحيحه وليس بالكلام، لأنّ التعبير عن “الحرص على التفاهم يجب أن يكون أوّلاً بالحرص على العيش الواحد، وذلك يترجَم بأداء مختلف عمّا هو قائم”.
ينذر هذا “التبادل” بعواصف داخلية وخارجية مقبلة على الفريقين على حدّ سواء. فهل يصمد التفاهم؟ أم الأحرى بنا أن نبدأ بالعدّ العكسي لإعلان الحداد عليه؟
سؤال قد تجيب عليه قراءة الأسباب الموجبة لاستمرار هذه الثنائية.
1- في 6 شباط 1984 قام رئيس حركة أمل نبيه برّي بانتفاضة على المارونية السياسية المتمثّلة يومئذٍ بالرئيس أمين الجميّل، فكانت “انتفاضة 6 شباط” بداية تكوين الشيعية السياسية من بوابة العسكر.
2- في 6 شباط 2006 قام الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله بانتفاضة، كتفه إلى كتف وريث المارونية السياسية الرئيس ميشال عون، مطلقاً العنان لسلطة الثنائية الشيعية تحت عباءة أكبر ممثّل للمسيحيين يومئذٍ.
3- يقول بعض المسؤولين الموارنة في أوساطهم إنّهم خسروا في زمن “السلم” بقدر ما خسروا في “زمن الحرب”.
يدرك باسيل أنّ خسائره كبيرة ورصيده لم يعد يسمح له بتلقّي “الضربات”، سواء داخل حزبه حيث تخرج أزمة إلى العلن عند كلّ استحقاق، أو داخل بيئته وجمهوره الذي يحاسبه على “إدارته للعلاقة مع الحزب” التي جعلته من “أكبر الخاسرين بعد خضوعه للعقوبات بسبب علاقته مع حزب الله”. لم يعد التيار قادراً على تحمّل تبعات الدور الذي ارتضى حزب الله أن يلعبه بعد الخروج السوري من لبنان والقائم على “إدارة التوازنات”. وعليه، لا بدّ من تغيير قواعد التفاهم على أساس “الدولة التي يتحدّث عنها باسيل بما يضمن له استمراريّته السياسية انطلاقاً ممّا بقي من تمثيله وليس انطلاقاً من إدارة توازنات مختلّة في البلاد”. لذلك يسعى باسيل إلى ضرب هذا الدور عبر تغيير قواعد الاشتباك والدفع باتجاه تعديلٍ أو تطويرٍ للنظام طالما تحدّث عنه علناً، وأوّل الغيث سيكون طرح قانون اللامركزية الإدارية الموسّعة في العهد المقبل.
4- في المقابل، يبدو حزب الله محاصَراً أيضاً. ليس تفصيلاً تطوُّر الانتفاضة في الداخل الإيراني، وليس تفصيلاً حجم المتغيّرات في الإقليم: “عندما يقول نصرالله إنّه يريد رئيساً لا يطعن المقاومة في ظهرها، فهذا يعني إدراكه أنّه مقبل على مرحلة صعبة”. من هنا تصلّبه في التمسّك بفرنجية بعدما خسر الشريك السنّيّ بغياب الحريري، وأصبح على وشك خسارة الشريك المسيحي مع عدم قدرة باسيل على مجاراته في حساباته داخل الحدود اللبنانية وخارجها.
إقرأ أيضاً: هل طلب باسيل موعداً من نصرالله؟
في الخلاصة: لم تعد حسابات الفريقين نفسها كما كانت عليه في عام 2006. صحيح أنّ ظروف الفريقين متشابهة لجهة محاصرتهما في الداخل والخارج. لكنّ ذلك لم يعد كافياً لاستمرار التحالف كما هو، ولا بدّ من تغيير جذري في قواعده، والدفع قدماً نحو تطوير النظام الطائفي الذي يجد حزب الله مصلحة له في إدارة صراعاته وتوازناته المكسورة. وهنا لبّ الأزمة المفتوحة على مزيد من الانفجارات الصغيرة بانتظار أن يعلن كلّ فريق تموضعه الجديد من داخل أو خارج التفاهم في العهد المقبل.
لمتابعة الكاتب على تويتر: josephinedeeb@