يحاول “حزب الله” أن يبرع في إيجاد الحجج التي تثبت أنّ إيران لا تتدخّل في الشأن الداخلي اللبناني في معرض الحديث عن انتخابات الرئاسة وإنهاء الفراغ الرئاسي، وفي سياق التطرّق إلى الحوار من أجل التوافق على اسم الرئيس العتيد، قبيل دعوة رئيس البرلمان نبيه بري إلى الجلسة الحادية عشرة لانتخابه.
وإذا كان واضحاً أنّ “الحزب” يكثّف دعوته إلى عدم انتظار الخارج في هذا المجال، فإنّه بالتأكيد يستبق الاجتماع الرباعي الفرنسي الأميركي السعودي القطري المنتظر في باريس منتصف الشهر الجاري الذي سيُعقد تحديداً من أجل مناقشة سبل الضغط على الفرقاء اللبنانيين من أجل تسريع إنهاء الفراغ.
يحاول “حزب الله” أن يبرع في إيجاد الحجج التي تثبت أنّ إيران لا تتدخّل في الشأن الداخلي اللبناني في معرض الحديث عن انتخابات الرئاسة وإنهاء الفراغ الرئاسي
التخفيف عن طهران تراكم ملفّاتها مع الغرب
مع أنّ الحزب يكرّر منذ مدّة الدعوة إلى الحوار الداخلي، فإنّ الأسبوع الفائت شهد ما يشبه الحملة في هذا الاتجاه. بدأها الأمين العام السيد حسن نصر الله الثلاثاء في 3 كانون الثاني في كلمته لمناسبة الذكرى الثالثة لاغتيال قائد “قوة القدس” في “حرس الثورة” الإيرانية اللواء قاسم سليماني ونائب قائد “الحشد الشعبي” أبي مهدي المهندس في العراق، بقوله تعليقاً على المراهنات بأن يتمّ انتخاب الرئيس بتسوية خارجية وبضغوط دولية على طهران لتسهيل هذه العملية الدستورية، إنّ “الجمهورية الإسلامية لا تُفاوض إلا على الملفّ النووي فقط، ونقطة على أوّل السطر. والكثير ممّا يُكتب في وسائل الإعلام حتى عن دور فرنسي وعن دور قطري وعن دور لا أعرف ماذا.. توجد فيه مبالغات كبيرة جدّاً بحسب معلوماتنا. الأصل هنا… فمَن ينتظر المفاوضات النووية بين إيران وأميركا، سينتظر ليس فقط شهراً واثنين وسنة، يمكن أن ينتظر عشرات السنين، فهل نبقى بلا رئيس للجمهورية؟”.
يحاول نصرالله أن يوقف تراكم المزيد من الملفّات على طهران في علاقتها بدول الغرب والدول العربية، من خلال المحاولات التي يمكن أن تسعى فرنسا إلى مواصلتها من أجل أن تلعب طهران دوراً في تليين موقف “الحزب” في لبنان بأن يتخلّى عن ورقة تعطيل النصاب في جلسات الانتخاب، التي تبدأ بتصويته مع حلفائه بالورقة البيضاء في الدورة الأولى للاقتراع، وتنتهي بانسحاب نوّابه ونواب الكتل النيابية الحليفة في الدورة الثانية، لئلّا ينجح خصومه في تجميع أنفسهم لمصلحة المرشّح الذي “لا يريده”.
خيبة ماكرون ومناورة “التعفّف” الإيرانيّ
لا ييأس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من المحاولة على الرغم من أنّه قال في مقابلته الصحافية في 23 كانون الأول إنّ الإيرانيين لم يكونوا “صادقين” معه طوال السنتين الماضيتين من محادثاته معهم في شأن الأزمة اللبنانية. لطالما كان جواب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لماكرون، سواء في اتصالاته معه أو في اجتماعه به في أيلول الماضي في نيويورك، مطابقاً لِما قاله نصر الله: “هذا شأن لبناني فلتتكلّموا مع أصدقائنا في لبنان”. ومن الطبيعي أن يكرّر نصر الله القول إنّ الجواب الإيراني هو نفسه في شأن اليمن والعراق.
سواء جاء الإيحاء بـ”التعفّف” الإيراني عن التدخّل في لبنان في سياق المناورة الكلامية التي تقصد إبقاء معضلات الفراغ الرئاسي في لبنان وتمديد الهدنة قائمة ومعلّقة بلا حلول ولا أوراق مساومة، أو كانت خلفيّة نفي التدخّل عائدة إلى انشغال عقل طهران هذه الأيام بمكان آخر هو الداخل حيث هي مضطرّة للمرّة الأولى إلى إعطاء الأولوية لقمع حركة الاحتجاجات الشعبية والنسوية والشبابية غير المسبوقة، فإنّ النتيجة هي نفسها من حيث إبقاء مأزق الفراغ الرئاسي ورقة في يد “حزب الله”. في هذه الحال تترك القيادة الإيرانية للحزب مهمّة إدارة إعادة تكوين السلطة في لبنان في التوقيت والشكل اللذين يضمنان لمحور الممانعة سلطة قابلة للانسجام مع تمدّد طهران في الإقليم، ومواجهة الضغوط الداخلية والخارجية على أدواتها، سواء في سوريا أو في لبنان.
أمّا في شأن اليمن فتترك إيران للحوثي إفشال تمديد الهدنة، بعدما أمعن في خرقها وانفضحت شحنات التسليح التي أرسلتها طهران عبر البحر وكشفتها البحرية الأميركية، فضلاً عن خطوات تشديد الحصار على تعز ومأرب وغيرهما.
في العراق، لا تُحصى المرّات، ولا سيّما أثناء تشكيل الحكومات إثر الانتخابات التي انتقل فيها مسؤولون إيرانيون علناً، خصوصاً سليماني، ثمّ خلفه إسماعيل قاآني، إلى بغداد من أجل ترجيح كفّة من تراه طهران مناسباً لأن يتولّى رئاسة الحكومة
تكليف “الحزب” إدارة المراوحة من لبنان إلى اليمن
ليست هي المرّة الأولى التي تترك فيها طهران للحزب إدارة تفاصيل أزمة ما لتفادي الضغوط عليها، حتى إنّه يتولّى إدارة المراوحة في الحلول لأزمات أخرى، إضافة إلى لبنان. فقد ساهم سابقاً في توجيه الحوثيين في كيفية وضع شروط التفاوض مع الشرعية اليمنية، خلال المحاولات المبكرة التي جرت في الكويت لوقف الحرب بعد عملية “عاصفة الحزم” ضدّ اقتحام “أنصار الله” عدن عام 2015. حينذاك عدّد هذه الشروط في خطاب علنيّ، فنسخها بعد يومين وفد الحوثيين في جلسات التفاوض. واشترك في التوسّط بين القيادة السورية وبين “حماس”، وتدخّل لدى صديقه مقتدى الصدر في العراق من أجل معاكسة الضغوط العراقية الداخلية الهادفة إلى خفض منسوب الهيمنة الإيرانية على الحكم العراقي. يسهل على الدهاء الإيراني أن يتقن توزيع الأدوار من أجل التبرّؤ من تهمة التدخّل، وذلك بالاختباء خلف أدواته الداخلية. يتيح هذا الأسلوب لنصر الله أن يقول كما جاء في خطابه الأخير: “البعض يُصوّر أنّ دولاً وقوى وحركات محور المقاومة هم مجرّد أدوات أو أتباع للجمهورية الإسلامية في إيران”.
وقائع من التدخّلات المباشرة
في جعبة بعض السياسيين اللبنانيين والعراقيين وغيرهم الكثير من وقائع هذا التدخّل في محطات مفصليّة بإمكانهم سردها، ومنها:
– حين تعثّرت مفاوضات الفرقاء اللبنانيين في مؤتمر الدوحة، الذي انعقد برعاية قطرية إثر غزوة الحزب لبيروت وجزء من الجبل، للتوصّل إلى اتفاق لتطبيع الوضع الميداني يشمل قانون الانتخاب (جرت الانتخابات لاحقاً في 2009 على أساسه). يومذاك تولّى وزير الخارجية الإيراني منوشهر متّكي الاتصال من طهران بقيادة حزب الله ليطلب إليها حسم الأمر وإنجاز الاتفاق في سرعة، فحصل ما أراد. وهو اتصال جرى بإلحاح من القيادة القطرية.
– بعد إقالة المحور الإيراني السوري حكومة الرئيس سعد الحريري في 12 كانون الثاني 2011 بحجّة “شهود الزور” في تحقيقات المحكمة الدولية الخاصة بمحاكمة قتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ردّاً على محاولة المملكة العربية السعودية إجراء مصالحة مع دمشق يجري من خلالها تطبيع الوضع في لبنان، اقتضى الانقلاب على مفاعيل فوز قوى 14 آذار في الانتخابات النيابية تسمية رئيس للحكومة من فريق 8 آذار. سعى بعض السياسيين الذين اعتمدوا نهجاً وسطياً حينذاك إلى عودة الحريري إلى الرئاسة الثالثة. تولّى السفير الإيراني المرحوم غضنفر ركن أبادي بنفسه، عبر جولة شملت بعض هؤلاء، ومنهم رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، إفهام هؤلاء أن لا مجال لعودة زعيم تيار “المستقبل” إلى المنصب، وأبلغهم أنّ المطلوب رئيس للحكومة لمصلحة “المقاومة” التي هي أهمّ من عودة الحريري، فكانت التسوية على تولّي نجيب ميقاتي المنصب بدلاً من الرئيس الراحل عمر كرامي.
إقرأ أيضاً: نريد رئيساً لا يطعن أولادنا في ظهورهم
– في العراق، لا تُحصى المرّات، ولا سيّما أثناء تشكيل الحكومات إثر الانتخابات التي انتقل فيها مسؤولون إيرانيون علناً، خصوصاً سليماني، ثمّ خلفه إسماعيل قاآني، إلى بغداد من أجل ترجيح كفّة من تراه طهران مناسباً لأن يتولّى رئاسة الحكومة، أو من أجل إعطاء التعليمات اللازمة من أجل مواجهة “ثورة تشرين” في 2017 ضدّ الطبقة السياسية الحاكمة الموالية لطهران، أو من أجل لجم اندفاعة مقتدى الصدر ضدّ رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وسائر رموز الولاء للوليّ الفقيه.