في نهاية عام 2022 يكون قد مرّ أكثر من مئة يوم على ثورة “المرأة، الحياة، الحرّية” المستمرّة في إيران. صحف، مجلّات، ومواقع صحافية إلكترونية عالمية اعتبرت هذا العام عام المرأة الإيرانية، وبعضها اختار للمناسبة 100 امرأة إيرانية وأدرجَهنّ في لائحة النساء الأكثر تأثيراً في هذا العام، وخصَّ بعضهنّ بتعريف أدوارهنّ في الحركة النسائية الإيرانية الراهنة والسابقة على انطلاق الثورة المستمرّة عندما قتلت شرطة الأخلاق الشابّة الإيرانية الكردية مهسا أميني في أيلول الماضي.
بدأ شعار الثورة الإيرانية الراهنة يتردّد أثناء تشييع مهسا أميني إلى مثواها الأخير في مقبرة مدينة سفر الإيرانية الكردية، وبلغة الكرد المكتومة والممنوعة
مِن هؤلاء النساء نستعرض أسماء ستكون لامعة في حكاية التاريخ الإيراني للأجيال اللاحقة:
– زهرة محمدي: مدرّسة لغة كردية في مدينة سنندج الإيرانية (سنه بلغة الكرد) في محافظة كردستان إيران. كانت (31 سنة حالياً) تتناول غداءها مع زميلتَيْها المدرّستين في منزلها في نهار من أيار 2019، عندما دهمت الاستخبارات الإيرانية المنزل واعتقلتهنّ، لأنّهنّ كنّ من رائداتٍ كرديّات بادرن إلى تعليم أطفالٍ كردٍ لغتهم الأمّ المحظورة في إيران. أُطلق سراح زميلتَيْ محمّدي المستجيبتين لمبادرتها، ومكثت هي في سجن انفرادي 8 أيام، قبل تبليغ عائلتها بمكانها. في تموز من العام نفسه احتُجزت 9 أسابيع، للسبب نفسه، وحُكم عليها بالسجن 5 سنوات. وذلك بتهمة ما سمّته السلطات الإيرانية “تشكيل لجنة وجماعة مناهضة لاستقرار النظام وأمنه” اللذين يقوّضهما تعلّم اللغة الكردية وتكلُّمها في إيران الحديثة الشاهنشاهية والخمينية. وهذه حال الكرد مع لغتهم وأسمائهم المكتومة والممنوعة في تركيا أتاتورك وسواه ممّن خلفوه على رئاسة الجمهورية الحديثة، وفي سوريا جمهورية الأعيان والوجهاء العرب ووريثها حزب البعث العربي الاشتراكي والأسديّ من بعده.
– حدس نجفي: في 21 أيلول، بعد أيام على مقتل مهسا أميني، شاركت نجفي (22 سنة) في تظاهرة بمنطقة كرج الإيرانية. صوّرها أصدقاؤها وسط التظاهرة وهي تقول “آمل أن أكون سعيدة في غضون بضع سنوات”، ثمّ قُتلت بعد ساعة من نشرها شريط صورها على وسائل التواصل الاجتماعي. منعت السلطات أهلها من إقامة جنازة عامّة لها، وهدّدوهم طالبين منهم القول للناس إنّها توفّيت في حادثة سير. قالت أمّها إنّ كدماتٍ كانت تبقّع وجه ابنتها وجسدها.
– مينو مجيدي: كردية من كرمنشاه، (55 سنة). قُتلت أثناء مشاركتها في تظاهرة في 20 أيلول الماضي، بعد أيام على مقتل أميني. ابنتها بانو مجيدي نشرت صورها على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد أيام على مقتل أمّها. في الصور تقف بانو وحدها قرب قبر والدتها حليقة شعر الرأس، وفي يدها خصل منه، فيما هي تحدّق بعينين جامدتين في عدسة الكاميرا.
– نيكا شكرمي: لم تتجاوز الـ16 من عمرها. كانت تقيم في طهران في منزل عمّتها الفنّانة الإيرانية المعروفة آتاش، التي شاركت نيكا في واحدة من تظاهراتها نهار 20 أيلول الماضي. في شريط فيديو بثّته على إنستغرام شاهدها أصدقاؤها تضرم النار في حجابها. في آخر مكالمة هاتفية لها مع إحدى صديقاتها، قالت إنّها تحاول الهرب من رجال شرطة يطاردونها، ثمّ اختفت. بعد أيام أبلغت الشرطة عائلتها أنّ لديها جثّة تشبه مواصفات ابنتهم. عُرِضت عليهم جثّتها فلم يُسمح لهم إلا بمشاهدة وجه نيكا، فرأوه مزرقّاً مشوّهاً. وحدها أمّها تعرّفت عليها. وقال رجال شرطة إنّهم وجدوا جثّتها أمام مبنى مرتفع سقطت عنه. لم تُسلَّم الجثّة إلى أسرتها، ودفنتها السلطات في غيابهم بعد مضيّ يوم واحد على عيد ميلادها الـ17. مصادر في الحرس الثوري أخبرت عمّتها آتاش أنّ نيكا كانت محتجزة في مقرّ للحرس لمدّة أسبوع، قبل إرسالها إلى سجن إيفين في طهران. ثمّ اعتُقلت عمّتها بعد مدّة قصيرة.
بعد أيّام على تشييع أميني وبدء التظاهرات في مدينتها سفر، انطلقت تظاهرات في مدينة سنندج، مطلقةً الهتاف عينه، قبل أن يردّده المتظاهرون في طهران باللغة الفارسية: “زان، زندعي، أزادي”
ثأر الخميني من النساء
بدأ شعار الثورة الإيرانية الراهنة يتردّد أثناء تشييع مهسا أميني إلى مثواها الأخير في مقبرة مدينة سفر الإيرانية الكردية، وبلغة الكرد المكتومة والممنوعة. فمهسا اسمها الكردي جينا، وهو مشتقّ من كلمة “جيان” الكردية، أي “حياة”. المشيّعات/ون هتفوا بلغتهم: “جين (المرأة)، جيان (الحياة/حياة)، أزادي (الحرّية)”. والهتاف – الشعار النسويّ هذا كرديّ الأصل والمنبت في ثنايا حركة الحرّية النسوية الكردية في تركيا وإيران. قبل 20 سنة تردّد في تظاهرات الكرد القومية في تركيا، ونشأ في أثناء صراع المرأة الكردية مع تقاليد النظام الأبوي الذكوري. وفي عام 2020 صدر في الكردية والإيطالية كتاب حمل الشعار اسماً له.
بعد أيّام على تشييع أميني وبدء التظاهرات في مدينتها سفر، انطلقت تظاهرات في مدينة سنندج، مطلقةً الهتاف عينه، قبل أن يردّده المتظاهرون في طهران باللغة الفارسية: “زان، زندعي، أزادي”.
لكنّ احتجاجات النساء الإيرانيات ضدّ فرض ارتدائهن الحجاب، بدأت غداة انتصار الثورة الخمينية الإسلامية سنة 1979، وإصدار الخميني قراراً يقضي بارتداء النساء الحجاب في الأماكن العامّة، بصرف النظر عن دينهنّ وجنسيّتهنّ.
وكان الشاه في الثلاثينيّات قد منع الحجاب وأمر الشرطة الإيرانية بمطاردة مرتدياته في الشوارع ونزعه بالقوّة عن رؤوسهنّ. لذا يبدو قرار الخميني، بعد انتصار ثورته، كأنّه انتقام سلطوي من سلطويّة الشاه، إضافة إلى جعله عنصراً في “الحمض النووي” لنظامه الإسلامي، حسب الباحث في معهد العلاقات الدولية في باريس، ديفيد ريجوليه، نقلاً عن موقع “بي بي سي” باللغة الفارسية. أمّا الناشطة الإيرانية مسيح نجاد، الهاربة من عسف النظام الخميني والمقيمة في أميركا، فتعتبر الحجاب “جدار برلين” النظام الإسلامي في إيران.
قرارُ الخميني فرضَ الحجاب مزهوّاً بالنساء الإيرانيات اللواتي شاركن محجّبات في الثورة سنة 1979، لم تزهُ نساء طهران جميعاً بارتدائه غداة الثورة. ففي 8 آذار 1979، ولمناسبة يوم المرأة العالمي، خرجت إلى شوارع العاصمة الإيرانية ألوف النساء سافراتٍ محتجّاتٍ على قرار الخميني.
الحجاب ورؤساء إيران
في صورة غرائبية تعود إلى عام 1980 يظهر في شارع بطهران رجل دين معمَّم ثيابه بيضاء كلّها، ويحمل بين يديه طفلته مغطّاة كلّها بشادور أسود، وخلفه زوجته يلفّها سواد شادورها مثل طفلتها. وفي صورة أخرى تظهر امرأتان مشودرتان بالسواد تقفان أمام واجهة متجر يعرضُ فساتين الأعراس البيضاء الزاهية.
المتخصّصة في دراسات المرأة في جامعة يورك البريطانية، هالة أفشار، الإيرانية الأصل، تعلّق (عبر موقع “بي بي سي” الفارسي) على الصورة الثانية قائلة: “ترتدي النساء الإيرانيات ما يشأن خلف أبواب بيوتهنّ المغلقة. حفلات الزفاف يُفترض أن تكون غير مختلطة. لكنّ الحفلات المختلطة استمرّت: يستأجر بعض الناس حرّاساً يقفون في الخارج أمام الأبواب. آخرون يستغنون عن الحرّاس بأن يرشوا الشرطة المحلية لتغضّ النظر عن حفلاتهم المختلطة”.
– في 2005، بعد انتهاء رئاسة محمد خاتمي وانتخاب محمود أحمدي نجاد رئيساً، تشدَّد الأخير في فرض الحجاب، ردّاً على التراخي الذي ساد في سني رئاسة خاتمي.
– في 2006، نظّمت نساء متشدّدات مشودرات مسيرات احتجاج في طهران ضدّ ما اعتبرنه “فشل السلطات في تطبيق قانون الحجاب الإلزامي”، أي دعماً لتشدّد أحمدي نجاد.
– في 2008، اعتُقلت نسوة حاولن دخول ملاعب كرة القدم في طهران المحظور عليهنّ دخولها لحضور مبارياتها. وفي بداية عهد نجاد الرئاسي أُسّس جهاز شرطة الأخلاق (كشت إرشاد، في الفارسية)، فسيّر رجال الجهاز دوريات في الشوارع لتنفيذ قوانين “اللباس المحتشم”. تستعمل الدوريّات فانات تتألّف من رجال ونساءٍ مشودرات لاعتقال النساء المخالفات.
– في 2017، اتّهم الرئيس حسن روحاني شرطة الأخلاق بالعدوانية المفرطة، وخفّف من تشدّد قواعد الالتزام بالحجاب. لكن ما إن تولّى إبراهيم رئيسي منصب الرئاسة، حتى عمد جهاز “التحجيب” إلى تكثيف دوريّاته في شوارع المدن الإيرانية. فعمدت نسوة كثيرات إلى الظهور سافرات في الأماكن العامّة وتصوير أنفسهنّ بلا حجاب، وبثِّ صورهنّ على وسائل التواصل الاجتماعي… إلى أن قُتلت مهسا أميني.
أدونيس الخميني والأسد
قبل مقتل مهسا أميني أعدمت السلطات الإيرانية في 2022 أكثر من 500 شخص. بعد أكثر من شهرين على انطلاق ثورة “المرأة، الحياة، الحرّية” أضافت إلى من أعدمتهم شابّين من المحتجّين، وأصدرت قرارات إعدام بعشراتٍ آخرين. ثمّ اعتقلت أكثر من 20 ألف شخص… لكنّ التظاهرات والاحتجاجات مستمرّة. وصار يكثر انطلاقها من المقابر بعد تشييع القتلى الذين تجاوز عددهم 500. وهذا يذكّر بالثورة السورية التي كان متظاهروها ينطلقون من المساجد بعد الصلاة على جثامين القتلى، فتتحوّل الجنازات إلى تظاهرات يسقط فيها قتلى جدد.
إقرأ أيضاً: فقر وجريمة وهجرة في لبنان.. وانتصار ثورة إيران؟
أخيراً يخطر تساؤل: ماذا يمكن للشاعر السلطاني البلاغي العربي، داعية الحداثة الشعرية السلطانية، علي أحمد سعيد (أدونيس) الذي لم يعجبه خروج التظاهرات السورية من المساجد، فاعتبرها رجعية، وكتب إلى بشار الأسد رسالة افتتحها بـ”سيادة الرئيس”، ودعاه فيها إلى الإمعان في الحداثة والتحديث… ماذا يمكن لأدونيس اليوم أن يقول ببلاغته في متظاهري المقابر الإيرانية؟ أليس خروج التظاهرات من المقابر أشدَّ “رجعيّة” و”تخلُّفاً” و”قدامة” من الخروج من المساجد؟
ربّما يعلم أدونيس اليوم أنّ “شعب إيران (لا) يكتب (ولا يصرخ مثله) للغرب: وجهك يا غرب مات”، على ما أنشد هو غداة انتصار ثورة الخميني سنة 1979، بل يهتف: “الموت للديكتاتور”، مثلما هتف الشعب السوري حين كانت جموعه تخرج من المساجد: “يلعن روحك يا حافظ” الأسد، كي يموت “الأبد” السوري الذي ربض 30 سنة على صدور السوريين وخنق أنفاسهم وكلماتهم، ثمّ قتل منهم مع وريثه (بشار) مئات الألوف وشرّد الملايين، كي يتجدّد “الأبد” لـ”سيادة الرئيس”.