لم يترك الاحتلال الإيراني للعراق شيئاً إلا وفعله لتغيير طبيعة الهويّة الوطنية لبلاد ما بين النهرين. جَرُؤ هذا الاحتلال على كلّ شيء. الأسوأ أنّه ينجح حالياً في إعادة صياغة الهويّة الثقافية لهذا البلد. آخِرة ابتكاراته دمج المقدّس بالمدنّس، أي الدين بالسياسة. واستغلاله للدين من طبيعة مذهبية مقيتة لا تنتج غير الكراهيات والعنف. الأخطر هو الهجوم على الذائقة الثقافية للعراقيين.
بلغت الوقاحة حدّاً مرعباً مع استغلال إحدى زوجات النبي “عائشة” للتأليب على الشاعر سعدي يوسف. بعده جاء استهداف الفنّان كاظم الساهر لا لشيء إلا بسبب من وطنيّة الأخير ورفضه الغناء تحت ظلال صور قاسم سليماني وأبي مهدي المهندس.
حين يلتحق مثقّفون بالرأي العامّ الذي تحرّكه الميليشيات الإيرانية في ما يتعلّق بمسألة المغنّي كاظم الساهر، فإنّ ذلك يشير إلى أنّ الشخصية العراقية التي لم تتخلَّ عن قسوتها صارت تبرمج عدوانيّتها بما يتناسب مع متطلّبات ثقافة الاحتلال
الطائفيّة لشتم المثقّفين والشعراء
حين طالب عراقيون في أوقات سابقة بإحراق كتب الشاعر الكبير سعدي يوسف كان جلّهم لم يقرأ شعره ولا يعرف شيئاً عن قيمته في الثقافة العربية المعاصرة، غير أنّهم كانوا قد صدّقوا ما أشاعه “مثقّفون”، هم على دراية بمَن يكون سعدي وأهميّة منجزه الشعريّ، من أكاذيب. كان الموقف الوطني الذي اتّخذه الشاعر بوضوح وصراحة من الاحتلال الأميركي ومن أتباعه هو ما دفع أولئك المثقّفين إلى إطلاق الشائعات الطائفية التي ألهبت مشاعر الجمهور الذي اندفع برعونة إلى شتم الشاعر وإلحاق الكثير من الصفات البذيئة به حين اعتبروه عدوّاً للعراق الجديد الذي هو عراق الطوائف. كان الغطاء الوطني لتلك الحفلة زائفاً.
الكراهية لـ”عائشة” لتأجيج الفتنة
يومئذٍ كانت “عائشة”، أصغر زوجات النبي العربي، هي عنوان الاحتيال الذي مارسه أولئك المثقّفون من أجل جذب الجمهور العاديّ إلى المشاركة في تظاهرتهم الخبيثة ضدّ الشاعر. فقد استعملوا قصيدة كتبها عن “عائشة” لاتهامه بإهانة الدين الإسلامي. وهو أمر لا يستوي مع الواقع. ذلك لأنّ المؤسّسة الدينية المتنفّذة في العراق لا تُخفي كراهيتها لها، وهي تدعو الجمهور العامّ إلى شتمها، وهو ما يفعله معظم رجال الدين الشيعة على المنابر علانية. تلك كذبة سعى مثقّفون عراقيون إلى تمريرها من أجل إدانة الشاعر الذي وقع اتّحاد الكتّاب أخيراً في حرج حين دعا إلى ندوة عنه بعد وفاته فهاج مثقّفو الميليشيات حتى أعلن الاتحاد إلغاء تلك الندوة.
الصمت عدوّ الحقيقة
من المؤكّد أنّ هناك مثقّفين عراقيين قد أدركوا حجم الجريمة التي تُرتكب في حقّ سمعة العراق الثقافية من خلال الترويج لموقف رثّ معادٍ لشاعر كبير مثل سعدي يوسف ومن بعده الشاعر سامي مهدي بعد وفاته، غير أنّ أصواتهم ضاعت في الضجيج، وهم يعرفون أنّ أيّة معركة يخوضونها في مواجهة الميليشيات الإيرانية ستكون غير متكافئة. لذلك لاذوا بالصمت، وهو عدوّ الحقيقة، في محاولة منهم للحفاظ على حياتهم.
حين يُحاط الساهر بحفلة شتائم عراقية لا لشيء إلا لأنّه اعترض على الاحتلال الإيراني المهيمن على بلاده، فإنّ ذلك يعني أنّ هناك مشكلة، لا في الشعب الذي أحبّه منذ بداياته، بل في المنظومة الثقافية التي تتحكّم بذلك الشعب وتحرِّكه
الساهر لن يغنّي في ظلال سليماني والمهندس
لكن حين يلتحق مثقّفون بالرأي العامّ الذي تحرّكه الميليشيات الإيرانية في ما يتعلّق بمسألة المغنّي كاظم الساهر، فإنّ ذلك يشير إلى أنّ الشخصية العراقية التي لم تتخلَّ عن قسوتها صارت تبرمج عدوانيّتها بما يتناسب مع متطلّبات ثقافة الاحتلال. لقد سبق لكاظم الساهر أن صرّح كما يُشاع في العراق بأنّه لن يغنّي في البصرة إلا إذا تمّت إزالة صور قاسم سليماني وتابعه أبي مهدي المهندس من شوارعها وساحاتها. وهو في ذلك لا يتدخّل في السياسة، بل يعبّر عن رأي وطني، ينبغي أن يحظى باحترام المثقّفين، إمّا لأنّهم يدعون إلى احترام الرأي الآخر في سياق تجربتهم الديمقراطية أو لأنّهم يؤمنون بالحرّية. وتلك مسألة لا يستطيعون عبور أسوارها الشائكة كما يبدو.
كاظم الساهر ليس كسعدي يوسف. فالأخير مهما اتّسعت شهرته وعلت قامته ثقافياً يظلّ أسير نخبويّته، بمعنى محدوديّة قرّائه. هو كالمتنبّي والسيّاب وأبي نؤاس والجواهري لن يعثر المرء على كتبه في كلّ بيت. أمّا الساهر فإنّه وصل إلى غرف النوم وأقام صوته هناك. لن يكون مهمّاً أن تحبّه أو لا تحبّه لكي تعترف بوجوده. رأيك في صوته وألحانه وكلمات أغانيه لن يعتدّ به أحد. لم يقُل أحد في وقت سابق على سبيل المجاز إنّ الساهر هو سفير الأغنية العراقية. خلق الساهر أسلوباً جديداً في الغناء العربي، وهو ما جعله ينافس كبار مطربي عصره ويتفوّق عليهم.
“مثقّفو الاحتلال الإيرانيّ” ورثاثة التفكير
أمّا حين يُحاط الساهر بحفلة شتائم عراقية لا لشيء إلا لأنّه اعترض على الاحتلال الإيراني المهيمن على بلاده، فإنّ ذلك يعني أنّ هناك مشكلة، لا في الشعب الذي أحبّه منذ بداياته، بل في المنظومة الثقافية التي تتحكّم بذلك الشعب وتحرِّكه. وهو ما يعني أنّ مثقّفي الاحتلال لعبوا دوراً كبيراً في الانتقال بالرأي العامّ العراقي من الإعجاب الذي ينطوي على شعور بالتفوّق إلى الغضب الذي ينطوي على رثاثة في التفكير.
إقرأ أيضاً:
لم يمشِ أحد في جنازة الشاعر الكبير سامي مهدي غير أفراد عائلته. سيستعيد العراقيون في المستقبل ذلك المشهد الحزين بشعور عارم من النقمة على الذات. لقد اعتادوا البكاء جلداً للذات. أمّا حين سيقرأون شعره فإنّهم سيعرفون أنّهم كانوا قليلي المعرفة بوطنهم. أمّا سعدي يوسف فقد كان أكثر جرأة في مواجهة حملات الكراهية لأنّه كان يقيم بعيداً عن سطوة مثقّفي الاحتلال وجمهورهم حين طلب منهم أن لا يقتربوا منه ومن جنازته. في الحالين كانت هناك أغطية طائفية وحزبية زائفة دثّر بها أولئك المثقّفون دوافعهم الحقيقية المرتبطة بآلة المحتلّ وأعوانه الإعلامية. غير أنّهم في مسألة كاظم الساهر، وقد صار ذاكرة لوجدان عربي متنقّل، وجدوا أنفسهم من غير غطاء فكشفوا عن حقيقة كونهم مجرّد جوقات مكلّفة بالدفاع عن الاحتلال. فالساهر كان بارعاً في التعبير عن وطنيّته. لم يقُل كلمة في السياسة ولم يمسّ الطوائف حين قال “لا” للاحتلال الإيراني ولصور زعماء ميليشياته.