بالغت وسائل الإعلام في تغطية خبر الاجتماع الذي عُقد في موسكو في 27 كانون الأول 2022، وضمّ وزيرَيْ الدفاع، التركي خلوصي آكار والسوري علي محمود عباس، في ضيافة نظيرهما الروسي سيرغي شويغو. والاجتماع هو الأوّل العلني والرسمي بين أنقرة ودمشق على هذا المستوى منذ عام 2011.
لا ينفصل الحدث عن سلسلة لقاءات جمعت قبل ذلك مسؤولَيْ المخابرات في البلدين، هاكان فيدال التركي وعلي مملوك السوري، الذي حضر خليفته حسام لوقا اجتماع موسكو الأخير مع نظيره التركي، إضافة إلى “المحادثة” التي جرت بين وزيرَيْ الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو والسوري فيصل المقداد على هامش مؤتمر حركة عدم الانحياز في بلغراد في تشرين الأول 2021.
بالغت وسائل الإعلام في تغطية خبر الاجتماع الذي عُقد في موسكو في 27 كانون الأول 2022، وضمّ وزيرَيْ الدفاع، التركي خلوصي آكار والسوري علي محمود عباس، في ضيافة نظيرهما الروسي سيرغي شويغو
مصالح إردوغان
يأتي الاجتماع في سياق ما تعرّفه دمشق وموسكو بأنّه حسابات انتخابية يحتاج إليها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قبل أشهر من الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي تجري في حزيران 2023، وتحدِّد مصير حزب العدالة والتنمية وزعيمه في الحكم في تركيا. ويأتي الحدث متّسقاً مع اقتراح إردوغان قبل أسابيع على نظيره الروسي فلاديمير بوتين رعاية آليّة ثلاثية يلتقي فيها تباعاً وزراء الدفاع والخارجية قبل قمّة محتملة تجمع الرؤساء الثلاثة. وينسجم الأمر أيضاً مع تحوّلات أنقرة الهادفة إلى “تصفير” ملفّات النزاع، وقد بدأ إردوغان سياسته الجديدة هذه مع السعودية ومصر والإمارات وإسرائيل.
إلى ذلك يسعى إردوغان إلى أن يستفيد من سوريا انتخابياً عبر مقاربة مشاكل اللجوء السوري التي تنهل المعارضة التركية منها حججاً وأسلحة تُشهرها في وجهه ووجه حزبه الحاكم. ويستخدم الرئيس التركي أيضاً مناورة شعبوية قديمة تقوم على إعادة تعويم المسألة الكردية من أجل استنفار عصبية قومية تركية ناخبة. وفي مناورة إردوغان أيضاً محاولة لاستمالة قسم من الكتلة الانتخابية العلوية الوازنة في بلاده.
يهدف تكتيك إردوغان في سوريا إلى إضعاف ورقة اللجوء السوري في يد المعارضة بإظهاره “انقلاباً” حقيقياً وجدّياً من خلال اندفاعه إلى عقد مصالحة مع النظام في دمشق. لكنّه من جهة أخرى يروم تعظيم حرصه على أمن تركيا والأتراك من خطر “الإرهاب الكردي” الذي يشكّله حزب العمال الكردستاني وامتداداته في العراق وسوريا، وهو الحزب الذي تعاديه معظم المكوّنات السياسية التركية.
بين روسيا وأميركا
لكنّ أمراً ما يجعل من طموحات إردوغان بعيدة المنال عمليّاً حتى لو تزاحمت الكاميرات على نقل اجتماعات تطبيعية أخرى مع دمشق. فالنظام السوري لا يملك مفاتيح سحرية يهديها إلى الرئيس التركي، في حال أراد فعلاً حلّاً يتعلّق بـ”الخطر الكردي” في شمال سوريا. وفي المقابل لم تُظهر أنقرة أيّ إشارات جادّة تشي بنيّتها تقديم مداخل في مناطق شمال غرب سوريا في إدلب والجوار بإمكانها أن تُقنع دمشق بسيادة ممتدّة توسّع من نفوذها هناك. ومن جهتها لا يمكن موسكو أن تقدّم ضمانات ذات مصداقية لدمشق وأنقرة وهي مستغرقة في مستنقعها الأوكراني.
ليست حال سوريا تفصيلاً يمكن معالجته من دون توافر إرادة دولية تتجاوز آليّة محدودة الأطراف. فاهتمام الأطراف الثلاثة بإيجاد تسوية ما في الشأن السوري في هذا الوقت الظرفي لا يمكنه أن يحظى بأولوية دولية تنصبّ حالياً على حرب أوكرانيا
يغيب عن هذه التسويات المفترَضة صامت أكبر هو الولايات المتحدة التي تكتفي بإصدار موقف رافض لأيّ تفاهمات تؤدّي إلى تطبيع مع نظام الأسد. وتبدو واشنطن غير قلقة من سعي الساعين إلى اجتراح حلول خلّاقة لأزماتهم في سوريا. وهي لم تقدّم موقفاً مطمئناً لشريكها التركي داخل حلف شمال الأطلسي بشأن تحالفها مع الأكراد في شمال شرق سوريا. وما زالت الإدارة الأميركية تعتبر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) شريكاً موثوقاً في الحرب ضدّ الإرهاب الذي تحرَّك بحيوية في المنطقة في الأيام الأخيرة “مستغلّاً” العمليات العسكرية التركية ضدّ “قسد”. وما زالت واشنطن معارضةً لعملية عسكرية تركية كبرى ضدّ من يحاربون الإرهاب بالشراكة مع التحالف الدولي.
يغيب أيضاً أنّ تقنيّات التطبيع بين دمشق وأنقرة تقفز عن المعضلة السورية وحقائقها الذاتية. لا يمكن اختراع منافذ من دون تسوية سياسية بين السوريين. فما زالت واشنطن والاتحاد الأوروبي متمسّكين بحلّ يقوم على القرار الأممي 2254 الذي يعتبرانه شرطاً لتسوية تستحقّ ضخّ أموال لإعادة الإعمار وعودة اللاجئين.
في هذا الإطار ينفضح رفض نظام دمشق الانخراط في لبّ المعضلة، وينكشف عجز الراعي الروسي عن التسويق الدوليّ لصيَغ تسويته السورية العتيدة. وفي غياب التسوية المعترَف بها من الدول المانحة يصعب الانخراط جدّيّاً في إعادة اللاجئين السوريين التي تبقى محدودة على منوال تجارب لبنان والأردن في هذا الصدد.
ضجيج هامش
على هذا تبدو اجتماعات وزراء الآليّة الثلاثية المفترَضة، وحتى احتمالات أن تشمل يوماً رؤساء روسيا وسوريا وتركيا، ضجيجَ الهامش لا المتن. فمناورات الرئيس التركي مدّتها وتوقيتها يتعلّقان بالاستحقاق الانتخابي فقط دون غيره. وهذا ما تدركه دمشق وتعرف واقعه موسكو. يريد الرئيس الروسي أن يظهر راعياً دوليّاً فاعلاً من خلال توسّطه في حلّ النزاع في سوريا على الرغم من حالة العزل التي تحاصره بها العواصم الغربية. وفي المقابل يحتاج الرئيس السوري بشار الأسد إلى اعتراف تركيا، إحدى الدول الداعمة للمعارضة السورية والداعية إلى الإطاحة بنظام دمشق، بفشل خياراتها واضطرارها إلى توسّل التفاوض والحوار والصلح، لعلّ ذلك يكون نموذجاً يُحتذى ويشيع كعدوى في المنطقة ودول أخرى في العالم.
تجتمع دمشق وموسكو وأنقرة على منع وجود حالة كردية في شمال سوريا، وتستوحي طموحاتها من الحالة الكردية في شمال العراق. لكنّ من تعتبرهم أنقرة إرهابيين يجرون محادثات مع دمشق ويزورون موسكو وواشنطن. ولهذا قد لا تجد الثلاثية بسهولة صيغة تعامل مشترك مع هذا الملفّ. وتختلف العواصم الثلاث على “إرهابية” الجماعات التي تحظى في شمال غرب سوريا برعاية ودعم أنقرة، لا بل تشكّل إحدى أذرعها الضاربة ضدّ “الإرهاب” الكردي في شمال شرق سوريا. وهنا أيضاً سيكون معقّداً إيجاد خريطة طريق لمقايضة الملفّين.
ليست حال سوريا تفصيلاً يمكن معالجته من دون توافر إرادة دولية تتجاوز آليّة محدودة الأطراف. فاهتمام الأطراف الثلاثة بإيجاد تسوية ما في الشأن السوري في هذا الوقت الظرفي لا يمكنه أن يحظى بأولوية دولية تنصبّ حالياً على حرب أوكرانيا. لذا تضطرّ أطراف النزاع في سوريا إلى انتظار مآلات الحدث الأوكراني لصوغ توازن دولي قد ينعكس إيجاباً في إنضاج حلّ ينهي كارثة سوريا ومأساتها.
إقرأ أيضاً:
يختصر وزير خارجية تركيا المشهد – الحدث العرضي، ويعلن نيّة أنقرة نقل السيطرة في مناطق وجود القوات التركية في سوريا إلى دمشق. ثمّ يفخّخ تلك النوايا بالشرط المكمّل: “في حال تحقّق الاستقرار السياسي”. هنا فقط يصبح لأيّ عرض خاتمة سعيدة أو مستحيلة.