14 آذار صار وراءنا، كذلك 17 تشرين بمعنى ما.
14 آذار ثلاثة أشياء:
أوّلًا: طلب إنهاء حكم وصاية سورية، وقد تحقق تحت شمس 14 آذار 2005 نفسها.
ثانيًا: طلب الاستغناء عن منطق الوصاية بحدّ ذاته، فلا يصار إلى تولية وصي جديد على هذا البلد وناسه، فلم يتحقّق منه شيء، إلا أنّ من ابتغى وراثة الوصي تمكّن بالنتيجة من التغلب على بقية الشركاء، لكنّه لم يتمكن من إدارة مجمل اللعبة كما كان يفعل الوصي. بقي مقام الوصي شاغراً.
ثالثًا: طلب معرفة حقيقة من قتل ضحايا الاغتيالات، هذا في وقت كانت فيه هذه الاغتيالات في بداياتها. لم يتوقف منطق الاغتيالات، لكن 14 آذار قيمتها الأساسية تكمن هنا. المكان الذي أتصالح فيه تماما مع 14 آذاريتي هو هنا: الرفض المتسلسل للاغتيالات المتسلسلة.
14 آذار حصل باجتماع تراكم مضني وزلزال.
التراكم أمّنته سنوات من العمل على تحرير لبنان من الوصاية السورية. السينودس، الإرشاد الرسولي، المناخ الثقافي، نداء المطارنة، قرنة شهوان، البريستول.
والزلزال كان اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
17 تشرين لم يسبقه تراكم بهذا الوضوح.
كانت الانتفاضة بنت نفسها إلى حد بعيد.
ولم تخرج الناس على خلفية حدث مزلزل، إنّما على خلفية مقترح ضريبي على الواتساب.
التراكم أمّنته سنوات من العمل على تحرير لبنان من الوصاية السورية. السينودس، الإرشاد الرسولي، المناخ الثقافي، نداء المطارنة، قرنة شهوان، البريستول
التراكم هنا لم تصنعه النضالات السابقة، وإن لم تكن غائبة، إنّما صنعه تراكم مسببات أزمة شح الدولار، ثم انطلاقة عملية الانهيار المالي المريعة، بخلاف 14 آذار المستندة إلى سردية أنّ قسماً من أركان الجمهورية الثانية انتقل إلى الخط السيادي ليلاقي المستبعدين من هذه الجمهورية من حملة المشاعل السيادية.
فقد قامت 17 تشرين على الإدانة الشاملة لكل أركان الجمهورية الثانية، وفي نفس وقت جنح الناشطون إلى تسميتها ثورة فإنّ قلّة منهم تنادت إلى التفكير بدستور جديد غير دستور الجمهورية الثانية.
و17 تشرين قامت على أمرين:
– كفرٌ بـ 14 آذار، بالشكل الذي آلت إليه.
– وكفرٌ بثنائية 8 و14 آذار نفسها.
قبل أن يطرح حزب الله على 17 تشرين السؤال، وما العمل إذا كانت عدائية 8 آذار لكم أعلى من عدائية 14 آذار لكم؟ ألا يحوّلكم هذا إلى 14 آذار جديدة؟
لكنّ 17 تشرين تستبشع نفسها إذا ما رأت في المرآة صورة 14 آذار، إذ هي ترى في 14 آذار تجربة مغلولة اليدين بالنهاية، وهي كانت تُمنّي النفس في خريف 2019 بأن تبقى حركتها طليقة.
14 آذار احتاجت لسنوات قبل أن ينتشر الإدراك بأن هذه التجربة حقّقت ما يمكنها تحقيقه ووصلت، عدا ذلك إلى طريق مسدود. أما 17 تشرين فهي وثبة غير مسبوقة بهذه الحيوية والمدى في تاريخ البلد. لكنّها مثلما هي، لم تأتِ عن تراكم، فإنه لا يُراكم عليها وحدها.
وفي 17 تشرين طلب لعلم السحر. السحر؟
ليس عن تحويل معدن ما إلى ذهب يجري الحديث هنا. بل عن محاولة تحويل حالة تصدّع مجتمعية متقدمة وحالة انسداد سياسي شاملة وحالة انهيار مالي واقتصادي مريعة إلى حالة تأسيس، وولادة من جديد.
لكن هل انهيار القديم يؤسس للجديد؟ ربما. ربما لا.
17 تشرين تستبشع نفسها إذا ما رأت في المرآة صورة 14 آذار، إذ هي ترى في 14 آذار تجربة مغلولة اليدين بالنهاية، وهي كانت تُمنّي النفس في خريف 2019 بأن تبقى حركتها طليقة
في كل الأحوال، ليس مباشرة. وليس ما نعيشه اليوم مخاض. لا شيء يسمح لنا الآن أن نسمي هذا التحلّل، التلف، التآكل، الغرغرينا، بأنّها “مخاض”. الواضح الآنه أنّه تقطّعت بالبلد كل السبل. ربما لو أنّ أحد الفريقين، 8 أو 14، حسم الأمر لمصلحته تماما في 2005، لكنّا في حالة أفضل. الحسم الفئوي لم يحصل، والغلبة الفئوية تقوّت في المقابل. غلبة قادرة على رعاية أعمال التعطيل، وغير قادرة على إدارة السستام ككل لمعالجة أوضاع الانسداد والانكماش والتعطيل.
إقرأ أيضاً: 14 آذار: هكذا سلّمت نفسها للحزب وإيران
14 آذار وراءنا، كذلك 17 تشرين.
الشيء الوحيد الذي أمامنا هو انعدام الأفق.
الشيء الوحيد الذي يكسر جلف الأفق المعدوم هو الصوت. صوت عصف 4 آب قبل الدوي الكبير. هذا الصوت لمّا يزل راهنًا. 4 آب الراهن والمتمدّد، و14 آذار و17 تشرين، من كنيات الماضي.
و4 آب في الوقت نفسه يعني استيعاب أنّه لا يمكن طرح كلّ تركة أفكار 14 آذار جانبًا، مثلما لا يمكن أن تبقى خطابات جماعات تشرين على حالها قبل وبعد الانفجار الكبير. وهذا الحدث لم يُعطِ كلّ ما عنده بعد.