سؤال من نوع السهل الممتنع، ما فتِىء كثيرون يطرحونه على أنفسهم في السر والعلانية، في الجلسات الخاصة والعامة، مواطنين عاديين وسياسيين وقادة أحزاب وتيارات، من أوساط محور الحزب، ومن القوى المعارضة والمختلفة معه، ويبنون عليه مواقف واستراتيجيات وآمالًا وسياسات، حول تداعيات هذا الحدث إذا ما أصبح واقعًا، ويرسمون الخطط لتلقّف النتائج وكيف سيوظفونها لتعزيز مواقعهم، وآليات ترجمتها داخل المنظومة الحاكمة، وكيف سيرثون أشلاء الحليفين لتكريس أنفسهم بدلاء شرعيين لهما في معادلة السلطة.
وهذا ما تحدّث به الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير (16 شباط 2021)، وتوقف عند ما أسماه “اختلافًا في وجهات النظر” بين قطبَي تحالف مار مخايل، أي حزب الله والتيار الوطني الحرّ. خصوصًا الاتهام الذي وجهه بيان المكتب السياسي في التيار، حول عدم تعاون الحزب في مسألة بناء الدولة. وفي هذا إشارة ضمنية إلى ما دأب العديد من قيادات التيار على الإشارة إليه، ويتعلق بتأمين الحزب الغطاء السياسي وحماية الفاسدين الذين يريد التيار محاربتهم ومحاكمتهم، في إطار مشروعه لاستعادة الأموال المنهوبة، وإعادة بناء الدولة والمؤسسات، ومن ضمنها في اللاوعي التياري، مسألة معركة استعادة صلاحيات موقع رئاسة الجمهورية، ومعها كنتيجة فرعية حقوق المسيحيين. وهي المعركة التي تدور رحاها اليوم بين رئيس الجمهورية من جهة، والرئيس المكلف سعد الدين الحريري، ومطلوب منها بحسب اللاوعي التياري، العودة إلى ما قبل اتفاق الطائف، وإعادة صياغته بما يسمح بتوزيع الصلاحيات على نصاب مختلف، يحفظ لموقع الرئاسة الأولى أكبر قدر من السلطة والقرار.
قد لا يكون حزب الله رافضًا لهذه المعركة والمآلات الممكنة لها، انطلاقًا من قناعة لديه بأنّها معركة يخوضها بأقل حجم وقدر من تحمّل المسؤولية عنها، مقابل ما يتحمّله الآن من هذه المسؤولية الناتجة عن تحالفه مع التيار في إطار التحالف القائم بينهما. وهو يتحمّل الكلام العالي والمشكّك بالاتفاق من قبل محازبيه، الذين يرون من الضروري ومن مسؤولية الحزب أن يسير معهم في معركتهم المتشعّبة والمركّبة، بكامل طاقته وكل قدرته وثقله السياسي والعسكري ونفوذه، بما يساعد ويسهّل عملية التغيير وتحقيق المكاسب.
توقف السيد حسن نصرالله عند ما أسماه “اختلافًا في وجهات النظر” بين قطبَي تحالف مار مخايل، أي حزب الله والتيار الوطني الحرّ. خصوصًا الاتهام الذي وجهه بيان المكتب السياسي في التيار، حول عدم تعاون الحزب في مسألة بناء الدولة
لا شك أنّ التزام الحزب الأخلاقي في الوفاء بالوعود التي يقطعها لحلفائه، تدفع إلى الاعتقاد بأنه – أي الحزب – لن يتخلى عن الحليف التياري، خصوصًا رئيسه جبران باسيل، كما فعل مع الجنرال ميشال عون والتزامه بالوعد والاتفاق معه بإيصاله إلى رئاسة الجمهورية. وهذا ما كلّف البلد أكثر من سنتَين ونصف السنة من التعطيل والفراغ في رئاسة الجمهورية. التزام بقيت آثاره السلبية غير ذات أهمية مقارنة مع المكاسب والنتائج التي حصل عليها سياسيًّا، بأن احتفظ بقدرة التأثير والتحكم بالمعادلات الداخلية التي تخدم أهدافه الاستراتيجية التي تتخطى الحدود اللبنانية.
مارس الحزب وما يزال مستوًى عاليًا من البراغماتية في المحافظة على هذا الاتفاق، انطلاقًا من سياسة “شعرة معاوية ” التي تعود لما قاله الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان، في حواريّته مع حليفه عمرو بن العاص: “إني لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أنّ بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، كانوا إذا شدّوها أرخيتها، وإذا أرخَوْها شددتها”.
وقد زاد من تمسّك الحزب بهذا التحالف، ما تعرّض له رئيس التيار مؤخرًا من عقوبات أميركية، لم تأتِ فقط نتيجة اتّهامه بالفساد، فهو شريك مع سياسيين آخرين حلفاء وخصوم في هذا الأمر، بل بسبب تحالفه مع الحزب. والحفاظ على هذا التحالف ينبع من الالتزام بالوفاء على غرار ما فعله الحزب مع الجنرال عون في الرئاسة.
مارس الحزب وما يزال مستوًى عاليًا من البراغماتية في المحافظة على هذا الاتفاق، انطلاقًا من سياسة “شعرة معاوية ” التي تعود لما قاله الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان، في حواريّته مع حليفه عمرو بن العاص
حساسية العلاقة بين الحزب والتيار، والمهمة الشاقة في تلافي الألغام التي تزرعها مواقف باسيل وقيادات أخرى في التيار على طريق هذا التحالف، دفعت الأمين العام للحزب إلى أن يتولّى هو شخصيًّا ملف العلاقة وحصرها به شخصيًّا. منذ التوقيع على اتفاق مار مخايل كان هو الطرف المقابل الذي يجلس على طاولة التنسيق مع رئيس التيار، ومتابعة كل التفاصيل التي تربط بين الحليفين وكل الأزمات التي تنشأ. إلى حدّ أنّ نصرالله تصدّى لكلّ الانتقادات والانزعاجات التي صدرت عن قيادات داخل حزبه لأداء ومواقف حلفائهم، في كثير من القضايا التي تتعلق بالسياسات الداخلية، وتلك المتعقلة بالدور الاقليمي والموقف من المعركة مع إسرائيل. والعمل على مأسسة هذه العلاقة بدأ مؤخرًا من خلال اتفاق الرجلين على تشكيل لجان متابعة متخصصة في معالجة الملفات ذات الاهتمامات المشتركة، على أن تكون المراجعة في القرارات النهائية عندهما شخصيًّا.
إقرأ أيضاً: تفاهم مار مخايل: وراثة العهد بدلاً من إنجاحه…
الالتزام الأخلاقي من حزب الله اتجاه التيار الوطني الحر، يقوم على تذليل كل العقبات التي تعترض استمرار هذا التحالف، تحت سقف الحفاظ على موقع التيار داخل الجماعة التي يمثلها، في مواجهة التصويب الذي يتعرض له من المنافسين المسيحيين، من دون أن يتخطى ذلك إلى مسألة دعم طموحات باسيل الرئاسية. خصوصًا أنّ نصرالله سبق أن أكد أنّ الحزب قد أوفى بالتزامه الأخلاقي في موضوع وصول الجنرال إلى الرئاسة وانتهى الأمر، وأنّ هذا الالتزام لا يسري على ما بعد ذلك، وأنّ حزبه لم يقدم وعودًا لأيّ طرف أو شخص في هذا الإطار، و أنّ الاشياء تُبنى على مقتضياتها في الوقت المناسب.
التطوّرات الإقليمية بعد التغيير الحاصل في الإدارة الأميركية، وما يمكن أن يشهده ملف الأزمة الإيرانية مع واشنطن، لا شك أنها ستنعكس على مجمل الملفات الإقليمية الأخرى ومنها لبنان، وبالتالي فإنّ الحفاظ على صلابة هذا التحالف، يخدم الطرفين في الأشهر أو السنتين المقبلتين. وأيّ إيجابية على خط واشنطن – طهران، لا شك ستجد ترجمةً لها على الساحة اللبنانية، فيها الكثير من المصالح التي يمكن أن يحصل عليها طرفا هذا التحالف. على الأقل في ما يتعلق بالمعركة القائمة التي يقودها التيار حول صلاحيات رئيس الجمهورية وحقوق المسيحيين، التي قد توضع على طاولة أيّ حوار داخلي بدعم وغطاء خارجي حول أزمة النظام اللبناني، وما يدور من جدل حول مؤتمر تأسيسي أو عقد سياسي جديد، يصب في إطار ما يطمح له الحزب لإعادة تركيب الصيغة اللبنانية.