“طبّاخ الريّس”، فيلم مصري (2008) حاول الإضاءة على الأزمة السياسية في مصر قبل “ثورة 25 يناير” بثلاث سنوات. تدور أحداثه حول “متولّي”، الطبّاخ الشعبي في حيّ السيدة عائشة، الذي أصبح بين ليلة وضحاها الطبّاخ الخاصّ بالريّس (الرئيس)، فتعمّقت علاقة الأخير (خالد زكي) بمتولّي الذي صار يُطلع الرئيس كلّ صباح على أخبار الناس ومعاناتهم بسبب انشغالاته الكثيرة، فيمدّه بالأفكار لحلّ المعضلات والأزمات، ويقدّم له النصح بين الحين والآخر من أجل محاربة الفساد والسهر على رفاهية المصريين.
هذا في السينما المصرية، أما في لبنان وفي الواقع، فللرئيس ميشال عون طبّاخ من صنف آخر، هو الوزير سليم جريصاتي: بارع في طهو “الأكلات” الدستورية والقانونية المسمومة. وللمفارقة، فإنّ هذا الطبّاخ لا يُطعم طبخاته للرئيس ولا لحاشيته، ولا يسهر على رفاه المواطنين، وإنّما العكس. يقدّم “طبّاخ الريّس” طبخاته للّبنانيين على “أطباق” الاستحقاقات اللبنانية، وكلّ استحقاق له plat du jour دستوريّ خاصّ به، وغالباً لا تصبّ “خواصه” والـNutrition Facts إلاّ في خانة بقاء عون في السلطة واستمراره من خلال صهره الميمون جبران باسيل.
لذلك تمّ العثور خلال الأيام الماضية، على الوزير سليم جريصاتي، غاطساً في أرشيف وزارة العدل، من خلال فريق من القضاة والمستشارين ، كلّفهم بالبحث عن فتوى أو قرينة قانونية أو سابقة، لا يهمّ عمرها، حتّى لو كانت تعود إلى حقبة الانتداب الفرنسي، لكنّ المهمّ أن تتحدّث عن حالة فراغ في مرفق لبناني عامّ، اضطرّ شاغل هذا المرفق بمعزل عن تراتبيّته الإدارية، إلى البقاء في منصبه، وذلك لعدم وجود بديل، فألزم مبدأ “استمرارية المرفق العام” هذا الموظّف بالاستمرار في العمل إلى حين توفير موظّف آخر.
في لبنان وفي الواقع، فللرئيس ميشال عون طبّاخ من صنف آخر، هو الوزير سليم جريصاتي: بارع في طهو “الأكلات” الدستورية والقانونية المسمومة
هذه السابقة يبحث عنها جريصاتي حتّى يطبخ “طبقاً جديداً” يقضي بتبرير بقاء رئيس الجمهورية ميشال عون في قصر بعبدا، لمنع الفراغ الرئاسي، ولـ”تصريف أعمال البلاد”، ريثما يتمّ التوصل إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ويفضّل عون طبعاً أن يكون صهره باسيل.
وقد استحصل جريصاتي حتّى الآن على الـrecette الخاصّة بـ”رئاسة باسيل”، من تجربتَيْ فراغٍ رئاسيّ سابقتيْن: الأولى بعد انتهاء ولاية الرئيس الأسبق إميل لحود واستمرار حكومة الرئيس فؤاد السنيورة 6 أشهر كحكومة غير مستقيلة بل أصيلة، والثانية بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان واستمرار حكومة الرئيس تمّام سلام سنتيْن ونصف السنة كحكومة أصيلة أيضاً.
درس “طبّاخ الريّس” مقاديره بعناية، فوجد أنّ الحكومتين ما كانتا مستقيلتَيْن، وقد آلت السلطة إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، فأدرك جريصاتي أنّ السلطة التنفيذية قادرة على الاستمرار، وبالتالي هي قادرة على تسيير شؤون البلد، ولو برِجل واحدة، وبلا رئاسة الجمهورية.
تنصّ الفقرة “د” في المادة الـ69 من الدستور اللبناني على أنّ الحكومة تُعتبر مستقيلة “عند بدء ولاية رئيس الجمهورية”، وليس عند انتهاء ولايته، وهذا يعني أنّ “طبّاخ القصر” يعلم جيّداً أنّ الموافقة على تشكيل الحكومة الآن، سيسحب من يد جبران باسيل ورقة ضغط إضافية فاعلة، بل سيكون قادراً على استغلالها مع انتهاء ولاية عمّه في تشرين الأول 2022، التي سيسبقها بنحو 5 أشهر انتهاء ولاية المجلس النيابي أيضاً، هذا إذا تمّت الانتخابات النيابية في موعدها، إذ يبدو أن التأجيل قد يكون “طبقاً” حاضراً على المائدة أيضاً.
درس “طبّاخ الريّس” مقاديره بعناية، فوجد أنّ الحكومتين ما كانتا مستقيلتَيْن، وقد آلت السلطة إلى مجلس الوزراء مجتمعاً، فأدرك جريصاتي أنّ السلطة التنفيذية قادرة على الاستمرار، وبالتالي هي قادرة على تسيير شؤون البلد، ولو برِجل واحدة، وبلا رئاسة الجمهورية
ففي “وصفة” المجلس النيابي، ربّما يعود جريصاتي إلى “تتبيلة” المجلس النيابي الذي سبق الحرب الأهلية، واستمر من نيسان 1972 حتى أيّار 1992. صحيح أن تُهم الـ”لاتمثيل” الشعبي تقاذفته طوال تلك المدة، لكنّه استطاع انتخاب 5 رؤساء للجمهورية. الأول، كان الياس سركيس الذي انتُخب قبل 7 أشهر من انتهاء ولاية سليمان فرنجية، لـ”تلافي الفراغ” بعد انتهاء ولاية الأخير وعدم حصول انتخابات رئاسيّة بسبب الأوضاع الأمينة. ثم انتخب بشير الجميّل خلال الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، ويومها قيل إنّ الجلسة جرت تحت الضغوط وبإحضار النوّاب عنوة إلى الجلسة من أجل تأمين النصاب. وكذلك انتخب أمين الجميّل بعد اغتيال شقيقه بشير، وتلاه انتخاب رينيه معوّض والياس الهراوي بعد التفاق الطائف.
وهذا يدّل إلى أنّ التاريخ زاخر بسوابق “انتخاب رئيس جديد بمجلس قديم”، وبهذا تكتمل الصورة التي يُعدّ لها جريصاتي: فراغ رئاسي وحكومي، و”شلل مفتعل” في المجلس النيابي.
إقرأ أيضاً: صادر عن جريصاتي: بئس الزمن.. تلامذتنا الراسبون يتطاولون علينا
يومئذ، يسقط البلد في فراغ “مثلث الأضلع” بالرئاسات الثلاث، طالما أن مصير رئيس المجلس النيابي من مصير مجلسه. ويومئذ يصير مبرّراً بقاء عون في بعبدا منعاً لتعميم الفراغ في السلطة الاجرائية، ويومئذٍ ربّما يستطيع باسيل وبقوّة سلاح حليفه “حزب الله” أن يفرض نفسه مرشّحاً أوحدَ للرئاسة يُنتخب بالمجلس نفسه.
ويومئذٍ أيضاً ربّما تصحّ مقولة “باسيل أو الفراغ”… فيسقط تكليف الرئيس الحريري ويضيّع بذلك فرصة “قلب الطاولة”، التي هدّد بها أكثر من مرّة. تلك الفرصة التي قيل إنّها ستُترجم بخطوتين: الاعتذار عن التكليف، ثمّ الاستقالة مع “كتلة المستقبل” من المجلس النيابي… وتكرّ سُبحة استقالات الكُتل الأخرى والنوّاب المستقلّين، الآن وقبل فوات الأوان، فهل يفعلها الحريري باكراً؟
هذه المرّة، قد يكون اللعب بالدستور هو لعب بمصير كلّ اللبنانيين، وقد يهدّد رئاسة الجمهورية، والجمهورية برمّتها.